عقاب يحيىبات الإرهاب شغلَ العالم الشاغل، وهو يوجه ضربات قوية مؤذية لعديد من البلدان، ويكشف عن مستوى عالٍ من الدقة والتنظيم وسعة الانتشار، ليصبح البند الأول على جدول أعمال الدول واهتماماتها.التَّوعدات كثيرة بالقضاء عليه، لكنَّه ينمو ويتمدد.الإرهاب أشكال وألوان، ولا يمكن حصره بداعش وأبناء عمومتها، فماذا نقول عمّن يلقي على الشعب براميل متفجرة تقتل العشرات بلا تعيين، ويستخدم الكيماوي والصواريخ شديدة المفعول على الطريقة الروسية؟! أو عن قصص موبقات الحشد الشعبي في العراق وما يفعلون؟! أو المليشيات الطائفية التي جاءت إلى بلادنا تقتل وتناصر الإرهابي الأعتى؟!ماذا نقول عن الصهاينة وما يفعلونه بالفلسطينيين على مدار عقود، وهم قوة احتلال غاشمة لم تكتف بسرقة واغتصاب جلِّ فلسطين، بل راحت تدوس جميع قرارات الشرعية الدولية الخاصة بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس؟! وماذا يسمى الاستيطان، وإرهاب السكان، وجدار العزل والفصل العنصري، وقتل شابات وشباب لمجرد الاشتباه بحمل سكين أو محاولات طعن مستوطن أو جندي محتل؟! كل ذلك فيض كبير من ممارسات متراكمة تهيِّئ مناخات انضواء العديد من الشباب في تنظيمات متطرفة، أو ممارسات ردّ الفعل التي لا يجدون غيرها طريقاً لبعض الثأر وتنفيس احتقان ممتلئ.وهل يمكن أن يفجّر شاب أو صبية نفسيهما، وينهيان حياتهما ما لم تكن هناك أسباب كبيرة موجبة تتجاوز قصة التعبئة الدينية إلى تراكمات الأذى وهدر الكرامة والحقوق؟!وأين يمكن تصنيف إقدام النُظم الدكتاتورية على تصفية المعارضين، وتنفيذ أحكام الإعدام بهم وفق محاكم مركّبة ومسلوبة الإرادة الحرّة ؟!حين احتل السوفييت أفغانستان ـ بتلك المبررات ـ نبتت القاعدة وقويت واشتدّ عودها، ثم صارت ظاهرة عالمية تتجاوز الحدود.صحيح أنَّ أطرافاً كثيرة دعمتها، خاصة الأمريكان، وجهات عربية متعددة سوّقت لفكرة جهاد الكفار تحقيقاً لأهداف أخرى خارجية كانت ترتبط “بالحرب الباردة” والعمل على إضعاف السوفييت واستنزافهم بتلك الطريقة المؤذية.لكنَّ القاعدة أوجدت المناخات المناسبة لدى مئات آلاف الشباب العربي والمسلم المضطهد والمهمّش والمظلوم والعاطل عن العمل، أو الممتلئ غيظاً من ممارسات الغرب ـ خاصة الولايات المتحدة الأمريكية ـ ضد العرب وقضاياهم، وفلسطين مركزها.ومن خلال أقنية تراث متراكم عن الاستعمار وما فعل، واختلاطات السياسة والواقع بمفاهيم مختارة عن جهاد الكفار، ودار الحرب والسلم والعنف والقتل، تكوَّنت ذهنية عنيفة تمارس الترهيب والترويع بأشرس صوره، وتعتقد أنَّ جهادها أقصر الطرق إلى الجنة.القاعدة تحوّلت من “صنيعة” أو حليف إلى نقيض، ونجحت في الانتشار على مستويات كبيرة وعامة تستهوي الشباب وحماسه، وتدفعه للقتال ضد ما تعتبره نظم الطواغيت ومن يساندها كالغرب، لتصبح الظاهرة البارزة في أخريات القرن الماضي، وما زال فكرها وتراثها يمثلان رصيداً كبيرا للتطرف واستخدام العنف سبيلاً وحيداً مبرراً ضد الآخر: (الظالم، الكافر، الصليبي، العدو….)ـوتحت رايات الردّ على تفجيرات نيوورك احتلت أمريكا أفغانستان، لتُلهب من جديد مشاعر النقمة، وتوفِّرُ أجواء الشحن لتجنيد المزيد من الشباب العربي والمسلم.وحين تمّ غزو واحتلال العراق، وتدمير دولته بتلك الطريقة الفاحشة، وبذلك المستوى من الظلم والتآمر وفبركة الأسباب لتنفيذ قرار قديم يشكل جزءاً من مشروع استراتيجي أمريكي-صهيوني، ثم تسليمه كمنطقة نفوذ لإيران، وتقسيمه واقعياً على أسس إثنية ومذهبية، كانت الدول المشاركة بتلك الجريمة التاريخية توفر الأسباب المباشرة وغير المباشرة لارتفاع وتيرة التطرف والعنف، رداّ على عنف جماعي تقوده دول كبرى، وهو ما شكّل الأرض الخصبة لتجاوز الفكر القاعدي إلى الداعشي الذي يعتبر تطويراً أكثر تشدداً، وأدّق تنظيماً.لقد كان لعديد من الأطراف أدوار مهمة في خلق أو دعم أو الترويج لمنظمات متطرفة، لإيجاد مسوّغات تغطي نواياها الحقيقية ومشاريعها، حتى لو انقلب ذلك إلى قوة معادية لها، ونجح في توجيه ضربات مؤذية لها.الأمريكان أصحاب مصلحة أولى في إيجاد قوى متطرفة مصنفة إرهابية، لتسويق مبرراتهم في الغزو والاحتلال والهيمنة، وتصريف العديد من الأزمات الداخلية والدولية، وفي جرجرة الدول العربية لاستنزافها مالياً، وتخويفها وإجبارها على شراء المزيد من السلاح.والصهيونية العالمية وكيانها الاغتصابي صاحبة مصلحة استراتيجية في تعميم التطرف، وقوى الإرهاب لاستنزاف الوضع العربي برمته، ووسم العرب والمسلمين بالغلو، والقتل تبريراً لهودنة الكيان، وابتزاز العالم، وتطويق المقاومة المشروعة.إيران صاحبة المشروع القومي الراكب على الدين والمذهب، لها مصلحة كبيرة في وجود ودعم التطرف، تمريراً لمشروعها القائم على التفتيت، والصراعات المذهبية، وتفسيخ الأوضاع العربية.ـ أما النظام السوري الفئوي بامتياز، وموقعه كأكبر إرهابي معمم، فهو أيضاً له أكبر مصلحة في تقوية التطرف لحرف الثورة، ومحاولة إغراقها في مياه ملوثة، ومنح نفسه مشروعية على أنَّه ضحية للإرهاب ومقاوم له.لذلك فالاتهامات التي تطال تلك الأطراف جميعها وغيرها بدعمها لقوى التطرف ليست خيالية، بل هي واقعية موثقة دون أن يَعني ذلك أنَّ تلك القوى المتطرفة عميلة بالمعنى الحرفي، أو مرتبطة كلياً بتلك الأطراف، أو تنفذ حرفياً أوامر توجه إليها، بل تقاس الأمور عبر المسارات والنتائج، والكل يعرف دور النظام المجرم منذ البدايات، وكذا النظام العراقي والإيراني في إطلاق سراح مئات المتطرفين، والتواطؤ المباشر وغير المباشر مع تنظيماتهم.لكن الحقيقة الأوضح أنَّ نموَّ قوى الإرهاب والتطرف يتجاوز جميع تلك العوامل التي أشرنا إليها إلى الواقع العربي وما يحدث فيه من ظلم واضطهاد واحتلال وتهميش من خلال تراكب العاملين: الداخلي الخاص بطبيعة نظم الاستبداد وما تفعله، والخارجي الموصوف بالاحتلال والهيمنة والانحياز المطلق للعدو التاريخي للأمة وهي الصهيونية وكيانها.ضمن ذلك يجب التنويه إلى ارتفاع وتيرة التركيز على ” السنة العرب” وما يواجهون من عمليات إبادة وتطهير وتهجير واستهداف، ونجاح القوى المعنية جميعها في رفع وتيرة الصراع المذهبي وتعميمه في المنطقة، وإحداث انقسامات عمودية خطيرة تفرّخ ـ كردود فعل ـ اتجاهات سنية متعددة الوتيرة العنيفة والمرجعية، وسط بيئة مناسبة تُشعر” أهل السنة” أنَّهم مستهدفون، وأن لا ملجأ لهم ولا سبيل لحماية حياتهم ومستقبلهم سوى امتشاق السلاح، والانضواء في التنظيمات القادرة على فعل شيء، أو ردّ الاعتبار لهم، أو حمايتهم، وهو ما يشكل الحاضنة الأكبر والمتسعة لداعش واستقطاباتها.من هنا فإنَّ أية معالجات حقيقية، وجذرية للإرهاب وانتشاره لا بدّ أن تتجه إلى الأسباب المنتجة له، وفي مقدمها وأساسها وجذرها إنهاء نظام الإرهاب والاستبداد، خاصة في العراق وسورية، وتكريس الحق الفلسطيني في دولة مستقلة عاصمتها القدس، وضمان حلٍّ عادلٍ للاجئين، ودعم الديمقراطية والعدالة لتكون هي السائدة في الأوضاع العربية.