بقلم سعود اﻷحمد
أنت اليوم غيرك البارحة، وغدا ستكون غيرك اليوم، وبين هذا وذاك تغير واختلاف على مستوى الثقافة والفكر والرؤيا إلى الكون والحياة واﻹنسان، وربَّما اختلاف في بعض مسائل العقيدة التي كنت تعتقد بها وتدافع عنها بدمائك، فمهما ارتقى العنصر البشري في مستويات تفكيره ووصل إلى درجة عالية من الوعي والرقي الفكري، فقد يختلف في رأيه بينه وبين نفسه، وذلك بحسب أحواله وطبيعة عصره وزمانه ومكانه.
إنَّ الاختلاف سنة كونية، لا يمكن لأحد أن يزيلها أو يظن أنَّ بإمكانه إزالتها، وعلى الرغم من أنَّ اﻹنسانية واحدة إلا أنَّ الحكمة اﻹلهية اقتضت أن تختلف وتتمايز وتنقسم على أمم وشعوب وقبائل ومجتمعات مختلفة وحضارات متعددة. يقول الله تعالى ” ومن وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ” الروم (22). وفي هذا التعدد كمال عظمة الخالق وقوة اقتداره وسعة رحمته وإحسانه، وإنَّ هذا التنوع الاجتماعي والثقافي والعقائدي واللغوي بين المجتمعات واﻷمم لهو دليل على سعة ما يتميز به ذلك العقل البشري وعلى تلك المساحة الواسعة التي يعمل فيها بحرية.
إذاً، فليس كل اختلاف مظهرا من مظاهر التراجع والتخلف أو التنازع والتفرقة كما يتوهم البعض، وليس كل اختلاف شرا مستطيرا يجب دفعه، فهو ظاهرة طبيعية وجدت في عهد الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم إلى يومنا هذا.
ويعود سبب الخلاف بين المسلمين في إطار العقيدة الواحدة إلى خصيصة يتفرد بها النص القرآني والحديثي المستدل به على مسألة من المسائل، ألا وهي غنى المدلولات التي تحملها اللفظة الواحدة في سياقاتها المتعددة، وخصب الدلالة وغزارة التأويلات وانفتاحها نتيجة طبيعية النص المعجز نفسه.
ولذلك نرى أنَّ لبعض المسائل أحكاما متباينة نتيجة اختلاف الدلالة التي فهمها المجتهد اعتمادا على اﻷدوات التي يستخدمها والمعطيات المتناولة والاعتبارات الزمانية والمكانية والأحداث المعاصرة.
ربَّما يكون هذا من أسرار النص القرآني والتشريعات التي تلبي احتياجات العصور كلها، فيأتي بالجديد دائما، وهذا معنى قولهم: إنَّ القرآن لا يخلق على كثرة الترداد، فتأويلاته مفتوحة غير مغلقة، تغري المجتهدين بالبحث والتنقيب عن كل جديد فات العلماء المتقدمين، وهذه حكمة عظيمة بل إنَّها موطن من المواطن التي تفرد بها الكتاب المعجز، ولو أراد الله تعالى لقرآنه أن يفسر وتصل معانيه كل معانيه دفعة واحدة -وهذا ممَّا لا يحتمله العقل البشري- لفسره اﻹنسان الكامل وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن العقول لا بدَّ من أن تعمل، ولا بدَّ للإبداع أن يستمر وللعبقريات أن تعطي.
ونعود إلى تأكيد أنَّ الاختلاف ظاهرة صحية في المجتمعات السليمة، تقصد التوسع على المكلفين لئلا ينحصروا في مذهب واحد كما يقول اﻹمام الزركشي. وقد رأى ابن تيمية أنَّ الخلاف الحاصل بين الصحابة في بعض فروع الشريعة رحمة واسعة.
ومن ثمرات الخلاف ظهور الحجاج الفكري والمناظرات التي ساهمت في ارتقاء الفكر ونشوء مدارس ومذاهب علمية مختلفة.
والعجب كل العجب ممن وقف على اختلاف خير القرون من الصحابة والتابعين في مسائل الفروع وأقره، ثمَّ لم يقر الاختلاف الواقع في عصره، فأدَّى ذلك إلى الانحراف الفكري وإلغاء الرأي الآخر ومصادرته وفرض الرأي الواحد في مسائل فيها من السعة والاجتهادات ما فيها، وأدَّى أيضا إلى إغلاق باب الحوار والمناظرة.
ويبقى التنبيه على أنَّ هناك ضوابط للاختلاف لا بدَّ من أن تحدد مسار العالم والمجتهد، لئلا يؤدي إلى البغضاء والعداوة، كالمناقشة الهادئة وعذر المخالف وعدم التشكيك بالنوايا وإنصاف الخصم وألا يقطع المجتهد برأيه فيما هو مفتوح لآراء غيره من المجتهدين.