قصي الهاشمي
ممَّا نتج عن التجزئة ظهور مشكلة جديدة لم تكن موجودة سابقاً في المجتمعات الإسلامية، وهي مشكلة الانتماء وضياع الهوية والدخول في متاهات لا تنتهي وإشكاليات مفتعلة، فهل يعلو الانتماء الإسلامي، أم يعلو الانتماء الفكري، أم القومي أم يعلو الانتماء لجماعات العمل الإسلامي التي بدأت اقتتالها فيما بينها وكلٌّ منها يعتقد أنَّه الحامي الأول والوحيد لمصالح المسلمين، أم يعلو الانتماء العشائري، أم القبلي، أم المناطقي؟؟؟
لكن السؤال الأول في هذه القضية: هل هناك انتماء يطمس البقية؟ هل هناك حقيقة عداء وتضارب بين هذه الانتماءات؟ هل تقوم فكرة الانتماء الإسلامي على التخلي ومحو هذه الانتماءات؟
يقول أهل العلم: إنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وحتى نستطيع الإجابة على هذه التساؤلات لابدَّ لنا أن نبحث في بدايات هذه المشكلة ومنشئها.
الحقيقة أنَّ هذه الإشكاليات ليست وليدة التدافع الطبيعي لتطور العقل في المناطق الإسلامية؛ فظهورها مرتبط بشكل واضح بعوامل خارجية مثل الحملات الصليبية على العالم الإسلامي والحملات الاستعمارية على المنطقة العربية خصوصاً وبقية العالم الإسلامي عموماً .
حملات التغريب التي صاحبت الاستعمار، والغلو الفكري الذي اجتاح الأمة تجلى في أنَّ صنَّاع القرار والمثقفين وجماعات تحريك الرأي العام لم يفكروا في إنتاج حلول من واقع الأمة وطبيعتها، بل استوردوا حلولاً من الخارج لإشكاليات ليس لها أصل في العالم الإسلامي تحت مسمى الوطنية على كلِّ الانتماءات الأخرى وترسيخ لاتفاقيات التقسيم كاتفاقية سايكس بيكو، فأدَّت هذه الحلول لظهور تضارب بين الانتماءات، كما أدَّت لمزيد من الاستعمار الفكري في أسوأ صوره وأوضحها متجلياً بمظهر الاستعمار في العالم الإسلامي بنموذج واضح في عهد أتاتورك الذي جعل من شعبه في لحظة واحدة أميّاً لا يعرف القراءة والكتابة باستيراده حروفاً لاتينية بدلاً من الحروف العربية معاداة للثقافة الإسلامية .
إنَّ مفهوم الانتماء لا يمكن الحديث عنه بمعزل عن سبب نشأته وتكوينه بصورته الحالية، فالدولة الإسلامية هي سبب تكون الأمة العربية، وعقيدة الإسلام هي التي صبغت الصورة الأم لثقافة وحياة الشعوب في بلاد المسلمين، كما أنَّ نظام الحكم والقضاء في الإسلام وتنظيم الإسلام لأمور الناس هو الذي ساد وهو الذي صهر كلَّ قبائل وشعوب العالم الإسلامي في بوتقة واحدة، فكما أنَّ الإسلام لا يمحو أي انتماء آخر؛ لكنَّه في ذات الوقت يروضه بحيث لا يعلو على الانتماء الإسلامي ولا يسمح له بأن يتحول إلى عصبية منتنة، بل إنَّ الفكر الإسلامي السامي يوظف كلَّ هذه الانتماءات للارتقاء بالمجتمع وجعل التدافع بين الناس بمختلف شعوبهم وقبائلهم وأجناسهم تدافعاً راقياً.
وتبقى مهمة تعزيز الانتماء الديني مهمة مشتركة بين جميع أطياف المجتمع المسلم، وخاصة الجماعات والحركات الإسلامية، فهي مطالبة بالتأكيد على الهوية الإسلامية الجامعة لكل الانتماءات، فلا مزيد من التغريب، ويجب عليها رفض الحلول المستوردة من الخارج وإن كانت كلُّ التجارب جديرة بالدراسة إلا أنَّ حلول مشكلاتنا يجب أن تستقى من تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا وظروفنا وتجاربنا مع الاستفادة من تجارب الآخرين.