فاطمة حاج موسى |
تجلس خلف مكنةٍ لحياكة الصوف، وبحركات مختلفة تحاول تعلم الغزل بخيوط الصوف المزركشة بالألوان الزاهية لتصنع الملابس الصوفية الدافئة، هدفها إتقان العمل على تلك المكنة من أجل إنتاج الملابس وبيعها لتأمين مصروف عائلتها كيلا تحتاج أحدًا.
(أم عبدو) سيدة ثلاثينية تعيش مع أبنائها في مدينة أريحا جنوب إدلب، لم تمنحها الحياة ظروفاً لتكن كباقي النساء خلال تفاصيل حياتها المتلاحقة، تخرج كل يوم بخطىً ترسم الأمل في عينيها إلى مشغل الصوف الوحيد الموجود بمدينة أريحا لكي تتعلم من “أم أحمد” صاحبة المشغل العمل على مكنة الصوف التي قدمها لها أحد أقاربها بعد زيارته لها ومشاهدته وضعها الصعب، خصوصًا أنها لا تستطيع العمل خارج المنزل لأن لديها بنتاً صغيرة في المدرسة بحاجة إلى رعاية وعناية.
لم تكن طفولة “أم عبدو” وحياتها كباقي الأطفال، عاشت في بيت أسرتها وتعرضت لعنف أسري من والديها حتى كان أغلب الناس يظنون أن تلك الفتاة البائسة ليست ابنة هذه العائلة، استمر شقاؤها عندما بلغت الرابعة عشر من عمرها عندما خيرتها والدتها بين زوج خمسيني، وآخر عمره خمس وثلاثون سنة متزوج مرتين لتكون هي الزوجة الثالثة، رفضت ونالت بسبب الرفض المزيد من الشتائم والضرب حتى رضخت في نهاية الأمر، وقبلت الزواج بالثلاثيني المطلق لزوجتيه، ولديه ثلاثة أولاد صبيّان وبنت من عُمرها نفسه!
“بيوم وليلة أصبحتُ زوجة هذا الرجل وصاحبة مسؤوليات المنزل الجديد التي لم تأرقني كثيراً بما أنني معتادة على ذلك، لكن شتائم زوجي على أبي وعائلتي كانت فوق طاقتي وتحّملي وكانت سبباً لضربي وأنا عروس في الليلة الثالثة لزواجي.
الشتائم القاسية والعنف الأقسى كانا سببًا لقتل روح هذه الفتاة وتدمير شخصيتها وخصوصًا أن ابنة زوجها التي في سنها كانت تغار منها، فقد مزقت لها ملابسها، وكانت تهمس لوالدها ببعض الكلمات التي تزيد من عنف هذا الزوج وقساوته، تقول: “بقيت ثلاث سنوات دون أن أحمل لأواجه الكلمات اللاذعة التي تنغرس داخل قلبي وتزيد من آثام الذين حولي أكثر وأكثر، كانوا يقولون لي مستهزئين: (لن تلد لأنها عقيم، لو حملت يدي تحملين أنت، لا تنفع في شيء..) وغيرها من الكلمات التي لا دين لها، وعندما أذن خالقي حملت بطفلتي الأولى لأُصمت بها قبحَ كلماتهم وسهامَ اتهاماتهم نحوي لكني لم أجد سبيلاً لذلك ..
كانت مولودتي بلا جُمجُمة، ربما من كثرة الضرب الذي نلته أثناء حملي، حُرمت مولودتي جمجمتها كما حُرمت أسناني بضربة قوية على وجهي من زوجي وأنا أحملها بأحشائي، كانت تمرُّ عليَّ وعلى طفلتي ساعات من السخرية من زوجي وأقاربنا، ورحمة بنا فارقت مولودتي الحياة حاملة معها رسالات ربانية كثيرة لمن ظلمني وظلمها.. لروحك طفلتي السلام.”
مضت الأيام ورزقت “أم عبدو” بولدين وخمسة بنات، أما أبناء زوجها فقد فروا من والدهم إلى أمهم في لبنان، حاول الأب إعادتهم كثيرًا لكنهم كبروا وفقد سيطرته عليهم.
“بعد أن كبر أولادي شعرت أن هناك سنداً لي، وقل تعرضي للضرب من زوجي لكن هذا السند لم يدم طويلاً..
مع بداية الثورة السورية كبر ابني (عبد الحميد) وانضم كباقي الشبان ليدافع عن أرضه وعرضه، كان الضوء الذي أرى نور الحياة من خلاله، أحتمي به وأجد بقربه حلاوة للأيام المُرة التي مضت ومازالت.
لم يعد زوجي يضربني أو يوبخني إلا قليلاً بغياب وطني (ابني) الذي أنتمي إليه وحده، يخرج مع أصدقاء السلاح إلى الثغور لحماية الأرض والعرض من المجرمين، كان قلبي ينتفض على صوت دراجته النارية وهو يدخل حارتنا، كنت أشعر بقدومه قبل أن يصل، أفتح باب المنزل وأسمع صوت أقدامه صاعدًا درجات المبنى، أحتضنه بسرعة وأشتم رائحته التي تقوي من عزيمتي للأيام القادمة.”
في أحد الأيام ظهرًا حاولتُ الاتصال به مرارًا لكنه لم يرد، وفجأة دخل الابن الأصغر ليخبر الأم الحائرة أن أصدقاء أخيه ينادون والده! وقفت أم عبدو بباب المنزل وسمعتهم يخبرون زوجها نبأ استشهاد ابنها، “كان شعورًا أطفأ النور في داخلي.”
ارتدت ملابس الخروج ودموعها تروي وجنتيها، ترغب بالصراخ من أعماقها لكن فجأة تراءى أمام عينيها لوح ذهبي مكتوب عليه الحديث النبوي: “إن الميت يعذب بما نيح عليه، ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية”
“ارتجف قلبي من هول ما رأيت، مسحت دموعي وتوجهت إلى المسجد الذي فيه ابني، الجميع استغرب صلابتي وأنا أسمع دعوات أصدقائه وكلماتهم المواسية لي، كنت في كل مرة أخبر ابني ألا ينسى هاتفه المحمول وكان يقول لي: لا تقلقي يا أمي مهما غبت سأعود وإن لم أستطع سيحملونني إليكِ..”
كان أصدقاء الشهيد يحملونه وعندما وصلت أمه وضعوه حتى تودعه: “ضممته ضمة الوداع، كان دافئًا حين وضعته على صدري، في إحدى عينيه شظية والأخرى مفتوحة، لم يغمضها إلا بعد أن رأيته. ” كبَّر أصدقاؤه وأشاروا إلى أن عبد الحميد كان مشتاقًا لأمه، وبعد رؤيته لها اطمأن وأغمض عينيه مودعًا لها.
“كان عائلتي وكياني، لم أشعر بالحنان يومًا من أحد إلا منه، شعرت بالغربة عن وطني الذي كنت أحتمي به والآن فارقني، ولأول مرة أرى والده بهذا الضعف والانكسار، حاولت أن أكون أقوى أمام هذا الامتحان وأدعو اللهم قوة..”
بقذيفة دبابة أصيب عبد الحميد وسبعة آخرون معه دفنوا جميعًا بحديقة الشهداء في مدينة أريحا بمرقدهم الأخير.
مرت الأيام ودخلت قوات النظام مدينة أريحا وخرجت أم عبدو وعائلتها إلى إحدى القرى القريبة وأصيب زوجها أبو محمد بمرض القلب، فكان ابنهما “عبد الرزاق” السند الوحيد يعمل بمحل الحلويات ويعين والده، ورغم ذلك كان ينال من المعاملة السيئة الكثير..
إثر نوبة قلبية نُقل أبو محمد إلى المشفى واضطرت أم عبدو لبيع معدات المحل لعلاج زوجها وإغلاق باب الرزق الوحيد لهم. وفي بداية عام ٢٠١٨ تُوفي هذا الرجل حاملاً معه ذكريات صلابته وعائلته التي تهوي بها رياح الأيام دون منزل أو مُعيل يُؤمن لهم أبسط احتياجاتهم.
زَوجت أم عبدو بناتها، وأصبح ابنها عبد الرزاق يعمل بالفرن الآلي ولا يعود حتى الفجر تاركًا والدته وأخته الصغيرة في المنزل، وأم عبدو تحاول التعلم على مكنة الصوف: “أحاول أن أتعلم على مكنة الصوف الآلية عند أم أحمد بالمشغل عندما تكون ابنتي بالمدرسة حتى أستطيع العمل في المنزل وأساعد ابني بمصروف البيت وآجاره.”
تتمنى أم عبدو أن تعمل بسرعة حتى تستطيع تأمين احتياجات منزلها وشراء ملابس جديدة لصغيرتها وأن تزوج ابنها الذي بقي لها من كل هذه الدنيا وتسعد برؤية أحفادها حولها علها تنسى مرارة الأيام السابقة.