إحسان الفقيه |
« in god we trust» على الأرجح قد مرت بك هذه العبارة التي تعني «نثق في الله»، على إحدى العملات الشهيرة المتداولة، وإسعافًا لذاكرتك، فليست مطبوعة على الدينار الكويتي ولا الريال السعودي ولا الجنيه المصري ولا الدرهم الإماراتي، بل على الدولار الأمريكي منذ عام 1864 وحتى اليوم، هذه العبارة تُحفز أذهاننا للتساؤل عن علاقة الولايات المتحدة وسياساتها بالدين.
يقول جيمس فين، القنصل الإنكليزي الأسبق في القدس: «لا أحد يستطيع أن يفهم أمريكا وحرياتها، إلا إذا وعى وتفهم التأثير الذي باشره ومازال يباشره الدين في صوْغ هذا البلد». البداية قديمة، سابقة على وجود شيء اسمه أمريكا، فالرحالة الإيطالي كريستوفر كولومبوس الذي اكتشف ذلك العالم الجديد، كانت تحكمه رؤية دينية، ويعتبر أن الله جعله رسولا للجنة الجديدة التي تحدث عنها «سفر الرؤيا»، ويعتقد أنها مملكة الرب الجديدة.
وكان هذا المنطلق الديني ظاهرًا لدى البابوات البروتستانت زمن التأسيس، حتى أن جون كوتون أبرز كهنة المستعمرات الأمريكية، استخدم المصطلحات الإسرائيلية نفسها، فيما يتعلق بالشعب المختار وأرض المعاد، فقال: «الرب حين خلقنا أعطانا أرض الميعاد (أمريكا)، وما دمنا الآن في أرض جديدة فلابد من بداية جديدة للحياة نعمل فيها من أجل مجد ذلك الشعب المختار». المجتمع الأمريكي يمثل حالة نادرة مِن نشأة المجتمع والدين معًا، فالمهاجرون الأوروبيون إلى تلك الأرض هم من البروتستانت، تلك الحركة الدينية التي أسسها مارتن لوثر، ومثّلت ثورة على احتكار الكنيسة لفهم الكتاب المقدس، فكانوا هم القوة الغالبة في المجتمع الجديد، حاملين معهم نهاية التطورات الدينية الحادثة في أوروبا، التي أفرزت معتقدات قدَرِية تربط الأرض الجديدة بالتدبير الإلهي، ما نتج عنه بزوغ جماعات دينية ضاغطة توغلت في السياسة الأمريكية حتى اليوم.
كان البعد الديني حاضرًا بقوة زمن التأسيس، حتى أن المؤسسين اختاروا أن يكون شعار الدولة متضمنا لدِرعٍ على هيئة نجمة داود، مُحمّل على رأس نسر، الذي يعد رمزًا توراتيا كذلك، بما يعني أنها صهيونية مسيحية قبل صهيونية ثيودور هرتزل.
وعندما اندلعت الحرب الأهلية في أمريكا، كان الزعماء في الجانبين يستمدون قوتهم من دعم رجال الدين، الذين كانوا يبررون القرارات السياسية، ويعقدون لقاءات يومية مع الجنود من أجل الوعظ والصلاة.
يقول المؤرخ وينثروب هدسن: «في عام 1900 لم يكد يوجد من يشك في الطرح القائل، «إن الولايات المتحدة كانت أمة بروتستانتية». لعل شهادة هدسن تختصر لنا علاقة أمريكا بالدين، أو على وجه التحديد المذهب البروتستانتي، الذي لعبت جماعاته الحاكمة، دوراً مركزياً في تشكيل السياسة الأمريكية، فأصبح نموذجا للسلوك الديني في قالبه السياسي، امتدادا للنشأة العقدية الأولى.
المجتمع الأمريكي حالة خاصة من علاقة الدين بالعلمانية، نستطيع القول إن أمريكا فصلت بين الكنيسة والدولة، ولكنها لم تفصل بين الدين والدولة، والفرق بينهما ظاهر، فهي بتبنِّيها ورعايتها للمذهب البروتسانتي، ترفض احتكار الكنيسة لتفسير الكتاب المقدس، وسيطرة رجال الدين على النحو الذي عاشته أوروبا، لكنها مع ذلك تُطلق التدين المدني البعيد عن سيطرة الكنيسة، أما السياسات الأمريكية فكثيرا ما تتأثر بالبُعد الديني، كما سيتضح في السطور المقبلة، والطبقة السياسية التي تدير الدولة جعلت من الدين مكونًا رئيسيا في الثقافة السياسية في أمريكا، وما يظهر من فصل بين الدين والسياسة إنما يتبلور في الشكل الأكاديمي.
في كتابها الشهير «النبوءة والسياسة»، ذكرت الكاتبة الأمريكية جريس هالسل، أن الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان كان يكره ليبيا لاعتقاده أنها واحدة من أعداء إسرائيل الذين ذكرتهم النبوءات. وقطعًا لو تحدث أي كاتب مسلم وعربي عن وجود دوافع دينية للاحتلال الأمريكي للعراق، لاتُّهِم بأنه أصولي متطرف أسيرٌ لنظرية المؤامرة، لكن الكاتب الفرنسي جون كلود موريس، زلزل الرأي العام الغربي بكتاب يكشف الدوافع الدينية لهذا الاحتلال. «لو كررت ذلك على مسمعي فلن أصدقه» ذلك هو عنوان الكتاب التوثيقي،
الذي عرض فيه الكاتب حقائق مفزعة جرت بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، حصل عليها من خلال أحاديث مع الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، مفادها أن الرئيس الأمريكي جورج بوش حاول إقناع نظيره الفرنسي بالمشاركة في الحرب على العراق، وأكد في مكالمة هاتفية معه، على أنها حرب تُمثل إرادة الرب في القضاء على «يأجوج ومأجوج» اللذيْن انبعثا في الشرق الأوسط للقضاء على دمار إسرائيل والغرب المسيحي. ويأجوج ومأجوج هما قبيلتان همجيتان، ورد ذكرهما في القرآن والسنة الصحيحة، يكون خروجهما في آخر الزمان من علامات يوم القيامة.
وجاء في الكتاب أن شيراك رغم علمه بتدين بوش، إلا أنه فزع من حديثه، وبحث عن طريق أساتذة اللاهوت عن ماهية «يأجوج ومأجوج»، فخلص إلى أنهما ورد ذكرهما في الكتاب المقدس، وأنهما جيش أسطوري يبيد إسرائيل قرب نهاية العالم. ولك أن تتخيل كيف يُطلق رئيس أقوى دولة في العالم حربا كهذه بسبب فهمه المفترض للكتاب المقدس، ومما يدعم هذا التوثيق أن بوش بعد دمار العراق، قال إنهم دخلوا الحرب بناء على معلومات مغلوطة، فلم يجدوا أسلحة كيميائية في العراق. وليس بوش وحده من الساسة الأمريكان من أقحم يأجوج ومأجوج في السياسة، فسبقه كذلك رونالد ريغان، إلا أن تفسيره للكتاب المقدس قاده إلى أن يأجوج ومأجوج هما السوفييت.
ومن أبرز تجليات البعد الديني في السياسة الأمريكية، العلاقة المثيرة للجدل بين الولايات المتحدة وإسرائيل، التي يُصرّ كثير من قومنا على حصرها في المصالح العسكرية والاقتصادية والسياسية، وفصْلها عن البعد الديني، ولذا أستشهدُ بتصريحات شيمعون بيريز في يومياته، الذي أبدى فيها عدم اقتناعه بأن الدولار يشكل حجر الأساس في المجتمع الأمريكي رغم ماديته، وإنما هو العهد القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل)، وعلى الأساس نفسه نشأت العلاقة بين إسرائيل وأمريكا. وتُبرز هذه التصريحات هيمنة الصهيونية المسيحية في أمريكا التي تؤمن بالعهد القديم والجديد معًا، وترعى قيام دولة إسرائيل، انطلاقا من نبوءات تربط الخلاص والألفية السعيدة بعودة اليهود إلى فلسطين.
كثير من الساسة الأمريكان مولعون بالتركيز على نصوص الكتاب المقدس المتعلقة بالنبوءات، ومنها نبوءة معركة «هرمجدون» وأنها ستعقب إقامة الهيكل في فلسطين، طرفاها أتباع المسيح وحلفاؤهم (اليهود)، وقوى الشر، وهذا ما أكده الأمريكي هال ليندسي في كتابه «كوكب الأرض القديم الرائع».
لا يُلام الأمريكان على استحضار الدين في سياساتهم، لكن يُلام في أمتنا أناسٌ يحارِبون من أجل فصْل الدين عن السياسة، ولا أزيد في هذا الصدد على قول المهاتما غاندي: «الذين يقولون إنه لا علاقة للدين بالسياسة هم في الحقيقة لا يعرفون ما هي الديانة»، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر: القدس العربي