غسان الجمعة |
منذ أن أعلنت الولايات المتحدة رغبتها بالانسحاب من الشرق الأوسط في الأعوام الأخيرة عقب حربها في العراق وما تبعها من أزمات بسبب تدخلها، بدأت قوى صاعدة في المنطقة بالظهور لسد فراغ السيد الأمريكي، وكان على رأس هذه القوى كل من (تركيا، وروسيا، وإيران).
ورغم العداء التقليدي بين تركيا وروسيا تاريخيًا، اتسم عهد العلاقات بينها بعد إسقاط أنقرة للمقاتلة الروسية بداية تدخلها في سورية بشيء من التفاهم والانسجام على الساحة الخارجية وفي نقاط التماس التي تقاطعت فيها مصالح كلا البلدين، بداية من سورية ومرورًا بليبيا، ومؤخرًا بأذربيجان.
لكن المتابع لسياسات موسكو في التعامل مع القضايا التي تكون فيها أنقرة طرفًا يشعر غالبًا بأن الروس يحضرون باللحظة الحاسمة ويأكلون الكتف على طريقتهم كما حدث في ليبيا من خلال وضع يدها على النفط، وكما حدث في سورية عندما أتت روسيا من خلف أنقرة وعبر ممراتها لتتدخل في سورية وتضيق عليها ملعبها شيئًا فشيئًا حتى باتت تساومها على بضع كيلو مترات على شريطها الحدودي!
وهذا على ما يبدو سيحصل في (قره باغ)، حيث انتظرت روسيا كعادتها اللحظة المناسبة لتنصب نفسها حكمًا دون قبولها لتركيا كشريك في ذلك حتى الآن رغم الدور الذي لعبته أنقرة مع أذربيجان؛ للوصول إلى حل، وتصريحاتها المتكررة التي لم تجد لها صدى في موسكو عن كونها شريك في دوريات حفظ السلام، حيث جثمت روسيا على شرايين المعابر ومفاصل المناطق، ورسخت بالاتفاقيات وجودها على التماس لخمس سنوات قادمة.
إن التحرك التركي إلى مناطق نفوذه القديمة يقوم على مقومين: إما عرقي كما هو في مناطق القوقاز وأواسط آسيا، أو ديني تسوغه شواهد الحضارة العثمانية كما هو الحال في الشرق الأوسط اليوم، وهنا تصطدم الرؤية التركية بالرغبة الروسية، فأغلب الدول ذات الأغلبية العرقية التركية هي أيضًا تركة سوفياتية لا يمكن أن تتنازل عنها موسكو كونها خط الدفاع الأول عنها، وهنا غالبًا ما تضع موسكو خطوطًا حمراء لأي لاعبين، هذا إن سمحت لهم باللعب على درجة من الخطورة بالقرب من خاصرتها الضعيفة.
أما عن الدول في الشرق الأوسط فإن السباق والتنافس بين البلدين لا يختلف كثيرًا عن سابقه، وما يسهِّل تفاهماتهما حول المنطقة هو اختلاف الدوافع للتدخل في هذه الدول رغم تحول الملفات العالقة بين البلدين إلى أوراق ضغط كلما تعرض أحدهما للحشر في زاوية ملعب الآخر، وهو ما حدث مؤخرًا عندما جلبت موسكو أنقرة لطاولة المفاوضات حول (قرة باغ)، حيث استهدف الطيران الروسي معسكرًا لفصيل سوري معارض تدعمه أنقرة في ريف إدلب.
تبقى العلاقة بين الطرفين قائمة على المصلحة من وجود كلا الطرفين على نقيض في أي ساحة صراع لأسباب تبدأ من التاريخية ولا تنتهي بالجيوسياسية، ويدخل في حسابها الاتحاد الأوروبي والناتو وصفقات الاقتصاد والسلاح، وقائمة تطول من المصالح يتم التضحية ببعضها والحفاظ على أخرى في بعض الأحيان وفقًا لأولويتها وللمكاسب التي سيتم تحقيقها من خلف ذلك، وعلى الأغلب هذه السياسة ستترسخ وتعمق أكثر في عهد جو بايدن.