من منَّا نحن السوريين لم يشاهد مسرحيات غربة، وكاسك يا وطن، وليلة سقوط بغداد؟ هذه المسرحيات صُنِفَت على أنها كوميدية سياسية تميزت بنقدها الساخر الجريء لبعض سياسات الأنظمة الحاكمة مقارنة بغيرها، لكن السؤال المهم كيف تسمح أنظمة شمولية مجرمة لهكذا مسرحيات وغيرها أن تُعرَض للشعب الرازح تحت نير هذه السلطة المنتَقَدة في المسرحية؟! ألا تعدُّ هذه المسرحيات تحريضًا للشعب على الثورة ضد جلّاده؟!
الجواب ببساطة هي أن هذه المسرحيات ما هي إلا حُقَن بنج، وأقراص مسكنة للشعب الذي لو تُرِكَ مضغوطًا سينفجر بوجه السلطة، لذلك تعمدُ السلطة لصنع شريحة من المؤثرين على الرأي العام مهمتها التنفيس عبر تسليط الضوء على سفاسف الأمور من فساد وأخطاء، وانتقادها وتضخيمها ليتوهمها الشعب أنها هي المشكلة الحقيقية، وأن هناك من يعالجها، وبالتالي ينسى جذر كل المشاكل وهو وجود السلطة القمعية نفسها.
ومن هنا نفهم مصطلح المنطقة الآمنة، حيث إنها توفر لنا شعورًا موهومًا بالرضا عن الذات، سواء كنا فيها مُنتَقِدين، أو سمّاعين لنقد غيرنا، ففي الحالة الأولى نحن مصلحين وطنيين شرفاء، وفي الأخرى نحن شعب حضاري يتمتع بحرية التعبير.
في المنطقة الآمنة تنتقد الوزير وتسكت عن صاحب الجلالة الذي عينه، تتحدث عن فساد مدير دائرة حكومية، وتسكت عن فساد الحزب الحاكم الذي ينتمي له، تهاجم ضابطًا مرتشيًا وتسكت عن حقيقة أن الجيوش والأجهزة الأمنية في العالم العربي هي صنيعة المحتل، ويده الباطشة لحماية عملائه من الزعماء والرؤساء.
حين أتت اللحظة التاريخية الثورية الفارقة، انهارت المنطقة الآمنة التي كانت مرتعًا خصبًا للكثيرين ممَّن حسبناهم أصحاب قضية، وانقسم الناس إلى فسطاطين رئيسيين، الأول مع الأنظمة المجرمة، والآخر مع ثورات الربيع، قد يقول البعض إننا نسينا الحياديين، الواقع أن الحياديين لم يخرجوا ضد النظام القمعي، وإن لم يرضوا به بشكل كامل، لكنهم شاؤوا أم أبوا جزء من منظومته كما تدل الوقائع.
بعد افتراق الناس إلى معسكرين نشأت مناطق آمنة جديدة لكل فريق، فعند المؤيدين للأنظمة بإمكانك نقد الشبيحة أو البلطجية، لكن لا تستطيع انتقاد النظام القمعي الذي جمعهم وسلحهم، وأطلقهم للنهش في الشعب. بإمكانك نقد فساد المحافظ لكنك لا تنقد الرئيس الذي عينه، وهكذا.
وعند الثوار، بإمكانك نقد تصرفات فصائل مسيئة، لكنك لا تستطيع التصريح بحقيقتها التي ربما تصل إلى الخيانة، والتي ربما الحل الجذري معها استئصالها لأنها سرطان يُنهِك جسم الثورة.
بإمكانك نقد الفاسدين من المحسوبين على الثورة، لكن ليس بإمكانك نقد سياسات الدول الداعمة والراعية لهم كتركيا وقطر، وغيرها.
وهكذا نجد أنفسنا نتحرك في دوائر مغلقة من المناطق الآمنة التي مهما انقسمت وتكاثرت ستعود للاتحاد من جديد، لترجعنا للمنطقة الأم الخاصة بالنظام القمعي التي نستطيع فيها انتقاد فساد عامل نظافة بدائرة حكومية مقابل السكوت على فساد المدير العام، وفضح شرطي مرور مرتشٍ، مقابل السكوت على النظام السياسي القائم بأكمله على الفساد.
قد نُخدَع بتذكرة العودة الآمنة للمنزل التي توفرها المنطقة الآمنة على المدى القصير، لكننا نتناسى أن التحرك الدائم بهذه المنطقة يهدد وجود المنزل نفسه بمن فيه وما فيه.
وتبقى الحلول الثورية الجذرية الحاسمة في استئصال جذور الفساد سواء أكانت مؤسسات أو أنظمة سياسية أو أفراد بر الأمان، والأرض الصلبة التي تمكننا من بناء المستقبل المنشود، خاصة إذا كان توقيت هذه الحلول في اللحظات التاريخية التي لا تتكرر إلا مرة كل جيل عبر الثورات الشعبية.