عكيد جولي – الحسكة
يُعتبر التسول من المظاهر الاجتماعية السلبية التي تنتشر في المجتمع السوري عامةً وفي محافظة الحسكة خاصةً، وقد ازداد انتشار هذه الظاهرة في ظلِّ الثورة السورية وما شهدته من مخاضات ومنعطفات، فوفق إحصائيات حكومة النظام السوري فإنَّ حالات التسول المضبوطة من الضابطة المختصة وصل إلى 5000 حالة في عام 2016 بينهم 2500 من الأطفال حسب صحيفة الوطن شبه الرسمية، وهذا العدد هو ضعف ما كان عليه عام 2010 وما يلفت الانتباه هُنا هم الأطفال الذين يشكلون الشريحة الأكبر من هذه الظاهرة والضحية الأكبر إن جاز التعبير، فالمتسولون يستخدمون الأطفال ويعلمونهم التسول لكسب عطف الناس وجني المزيد من المال وهم يتفننون في أساليب التسول.
وإن اتفقوا من حيث المكان فالمناطق والمدن المأهولة تشكل بيئةً ومناخاً مناسبين للمتسولين الذين يجبرون الأطفال أحياناً على حمل تقارير طبية، وأحياناً يسير الأطفال بثيابٍ مهترئة وحفاة في الشوارع، كل هذا التفنن في الأساليب يهدف إلى كسب عواطف ومشاعر الناس، وأغلب المتسولين يُرجعون سبب تسولهم إلى البطالة والفقر والأوضاع المعيشية الصعبة.
عزيزة أم أحمد امرأة معروفة لدى أهالي مدينتي الدرباسية وعامودا في محافظة الحسكة، تدافع عن موقفها وموقف ابنها الذي لا يزيد عمره عن أحد عشر سنة فتقول “نحن فقراء وأنا اصطحب ولدي معي منذ سنتين تقريباً، كل البيوت في المنطقة تعرفني وتعرف وضعي، البعض ينظر إليَّ نظرة استحسان، والبعض الآخر يطلب مني ترك العادة، لكني لا أبالي، فأنا أكسب رزقي بهذه الطريقة وأعتبر ما أقوم به هو الصواب”.من هذا المنظور يرى المتسول نفسه على حق، فالفقر والوضع المعيشي الصعب وقلة العمل أسباب لا تترك له خياراً آخر، غير أنَّ الطفل المتسول الذي يُحرم من مدرسته ويضيع مستقبله لا يملك أية إرادة أصلاً في اتخاذ مثل هكذا قرارات، ليصبح الشارع منزله المفضّل، لأنَّ تكرار هكذا عادة على مدى أشهر عدة تجعل تفكيره ينحصر ضمن بيئةٍ معينة كما تقول الناشطة الاجتماعية حبيبة محمد، ثمَّ تضيف محمد لـ صحيفة حبر “هذه البيئة تخلق لدى الطفل شعوراً بالانعدامية والدونية، خاصةً أنَّه يوجه كل نشاطه وجلّ تفكيره نحو طريقة كسب المال” وتمضي محمد في حديثها قائلة: “نستطيع القول: إنَّ هذا الطفل إن لم تتدخل الجهات المعنية لإنقاذه سيضيع مستقبله، وربَّما مستقبل أولاده إذا ما كبر وتزوج يوماً”. لعلَّ ذكر الناشطة الاجتماعية كلمة (الجهات المعنية) وبالتحديد الحكومية، يأخذنا إلى ذروة المشكلة التي دوماً تكمن في الأسباب وإن كنَّا لا ندافع عن هذه الظاهرة الاجتماعية، لكن أحياناً ذكر السبب يُبطل العجب..!فالجهات المعنية والحكومية بشكلٍ خاص ربما آخر ما تفكر به وآخر ما يعنيها هو الأطفال ومستقبلهم، بل لعلها هي أصلاً من ساعدت في انتشار الظاهرة، ولا نقول من خلقت مثل هذه الظاهرة، فالتسول موجود منذ زمنٍ بعيد لكن ما يشهده البلد من دمار وبطالة وفقر هو ما ساعد على انتشال الظاهرة بشكلٍ كبير.
لكن أيًّا كانت الأسباب وكائناً من كان المسبب، فالكل يتضرر، والكل يتفق على أنَّ التسول عامةً وتسول الأطفال خاصةً مرضٌ اجتماعي يتوجب معالجته بكل الطرق ومن قبل كافة الجهات، ففي مدينة عامودا مثلاً قامت مؤسسات المجتمع المدني عبر الجمعيات الخيرية ومراكز تنمية الطفولة والمبادرات الأهلية والأوساط الدينية بمحاولة مكافحة الظاهرة، وعن هذه المحاولة تحدث مصطفى رمضان وهو عضو جمعية عامودا الخيرية لـ صحيفة حبر: “قمنا في جمعية عامودا الخيرية بجمع أسماء بعض الناس الذين يتسولون أمام الجوامع وذلك بالتنسيق مع أئمة الجوامع، وشكَّلنا لائحة بأسمائهم، وقمنا بإجراء تحرٍ لوضعهم، ثم قدَّمنا لمعظمهم سلات غذائية وأحياناً مبلغاً من المال، وتمَّ تسجيل الحالات الأكثر حاجةً ليُصرف لهم مبلغ شهري من المال، كلُّ ذلك للحدّ من حالات التسول في المدينة”. وقد نرى في مثل هذه المحاولات والمبادرات بصيص أمل وتجربة اجتماعية عن حالة اعتماد المجتمع على نفسه في مكافحة الظواهر السلبية المنتشرة بين أبنائه، أبناءٌ ما عادوا يدركون لماذا يجوبون الشوارع والأزقة والجوامع والأسواق، يمدّون أيديهم للحصول على مبلغ من المال حتى أصبح بعض الأطفال متمرسا في التسول كأنَّها مهنةٌ واجبٌ إتقانها.ومن هنا جاءت الأهمية لدور التوعية الاجتماعية الثقافية الأسرية والمدرسية للطفل كي لا يصبح عرضةً للاستغلال.وسألنا المرشد الاجتماعي في مدرسة جميلة بوحيدر في مدينة الدرباسية مصطفى عربو عن دور المدرسة في هذا المجال فأجابنا: “للمدرسة دور مهم جداً، فالمعلم والمدير والمرشد الاجتماعي وكل الكادر التدريسي والإداري والتعليمي في المدرسة مسؤول عن توعية الطفل من خلال أهم نقطة لديه ألا وهي العاطفة، وتوجيه هذه العاطفة إلى حب العلم والتعليم، فإن أحب الطفل مدرسته وتعليمه لن يتركها أبداً، كما إنَّ المدرسة تزوّد مدارك الطفل وتغذي ملكاته الفكرية والمهارية ما يجعلهُ يثق بنفسه ويتشكل لديه الدافع للحياة والتقدم في المجتمع بأرقى الأساليب” وأضاف عربو: “نحن نقوم باجتماع شهري لأولياء التلاميذ، نتحدث معهم عن مختلف المواضيع لا سيما حول كيفية تربية الطفل والنشأة السليمة”.
إذاً فالتكاتف والتعاون بين شرائح وفئات المجتمع ومؤسساته الخاصة منها والعامة يعطي أملاً وحلاً وإن كان جزئياً للحد من انتشار التسول بشكلٍ عام وتسول الأطفال بشكلٍ خاص فدوماً (طريق الألف ميل يبدأ بخطوة)