غسان الجمعة |
تميل المجتمعات والشعوب نحو التغيير والتحرر والنمو، وتاريخنا نحن الشعوب العربية مليء بمحطات الانعتاق وحركات التحرر من الاستبداد والقمع..
البداية كانت من حراك الاستقلال في معظم الدول العربية في أربعينيات القرن الماضي وما تبعه بعد ذلك بعقود من انتفاضات شعبية ضد ما كان يسمى بالأنظمة الرجعية أو الوظيفية من خلال موجات تحررية اتسمت بالطابع القومي لتحقيق الاستقلال الحقيقي والبدء بعملية النهوض والبناء كما حصل في مصر وسورية والعراق.
قدمت هذه الثورات دساتير جديدة في طالعها وعود بالحريات والعدالة والمساواة وغيرها من المصطلحات التي روت ظمأ الجماهير وقتها وفتنتها بمستقبلها الموعود. لكن مع مرور السنوات تحولت هذه النخب الثورية التي قادت التغيير إلى سلطات مستبدة أسوأ من التي خلعتها، بل وطدت لنفسها أركان ديكتاتورية جديدة بمواصفات عصرية وقت ذاك من خلال ربط ديمومتها بمفهوم الدولة، فكان هذا الخلط بمنزلة زواج غير شرعي أنتج واقعاً مشوهاً مشلولاً من كل النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية دأبت فيه الجمهوريات للحفاظ على كرسي الثورة بشعارات مقارعة الصهيونية والإمبريالية وآخرها الإرهاب والمقاومة.
أدركت الشعوب العربية حقيقة سلطة الشعب والجمهورية وأيقنت أنها محكومة بأنظمة سلطوية تسعى لتوريث استبدادها وقمعها باسم القائد والأمين والوطنية والتحرر، فما كان منها إلا أن تنفض عنها قحط سنين الاستقرار العجاف بثورات الربيع العربي..
بزوغ فجر هذا الحراك السياسي كشف هشاشة الأنظمة وأظهر وهنها الذي نخر الفساد هياكله، كما أنه رفع الستار عن طامات الأمراض الاجتماعية في ظل هامش الحرية التي تنفستها طبقات الشعب المختلفة التي كانت سبباً في نجاح بعض الأنظمة الديكتاتورية لتلملم نفسها وتلتف على مطالب شعوبها من ثغرات المجتمع الثائر فأقنعت الكثير من الشعوب أن العيش تحت مظلة الحذاء العسكري أفضل من مدعاة التغيير والحرية، وتوقف ذلك الربيع حتى بات غريباً كما هو الآن في السودان… فهل استكانت الشعوب لقهرها وألفت قلوبها وعقولها الطغيان؟ بالطبع لا..
الحراك الشعبي أو التغيير الثوري أطلق عليه ما شئت لن يموت، وهو محكوم بقدر المحاولات المستمرة، فليس له طبقات نخبوية يمكن ترويضها ولا ينتمي لأحزاب وتيارات تعرض عليها المحاصصة والمساومة فتقبل، بل هو جذوة متقدة و إن أُخمدت نارها فقد تشعل غضبها بأي لحظة، والأنظمة العربية باتت مستنزفة بخُرق شعاراتها الرنانة ومكشوفة بعوراتها وهي تدرك أن التغيير قادم بطريقة أخرى بعد أن تلقت الشعوب الدروس والعبر من أخطائها، حيث إننا نشهد اليوم تغييراً ناعماً يستهدف وعي الحاضر ونبت المستقبل بتوعية فكرية وحضارية لمختلف المسارات وإن لم يكن بزخم، بدأ على وسائل الإعلام و بتفاعلات رواد مواقع التواصل الاجتماعي و بمناهجنا التعليمية و بمؤلفات الكتاب و الأدباء و حتى بأغاني الأطفال.
مجتمعات باتت على يقين أن التغيير يستحيل بعقلية الأمس التي يحفظها المستبدون ويعرفون ثغراتها التي صنعوا بعضها هم، ولذلك الأولى أن تبدأ الثورة بمفاهيمنا ومعتقداتنا وتحرير أفكارنا وغرس الوعي بأجيالنا، لتكون الانتفاضات أو الثورات ليست مبلغ المنتهى بل هي الوسيلة وليست الهدف، إذ يجب أن نسعى للحرية كواقع ملموس في بيئة سليمة وليس في مستنقع أمراض.
التغيير قادم لا محالة.. ولن يكون في مسيرته مواكب للتعصب والجهل والفساد وستزهر مجتمعاتنا بربيع بيئته القيم والوعي والإيمان بأن الحرية تغرس أولاً في النفوس لتحصد ثمارها بالساحات.