طلال شوّار
ثورة خرجت على يد أطفال التقطوا نسائم الربيع التي هبَّت من تونس الخضراء وأرض الكنانة مصر.
أطفال كتبوا على الجدران بضع كلمات تختصر أحلام السوريين.
ثورةٌ لم تكن تحلم سوى بالحريّة والكرامة وإنهاء الاستبداد والدكتاتوريّة التي ألقت بظلالها على البلاد لما يقارب النصف قرن من الزمن.
أشعل أولئك الأطفال المباركون شرارتها، وكان ذلك معجزة بنظر العالم لما عرف عن هذا النظام من وحشيّة وهمجيّة، ولم يتوقع أحد أن يتعدى الأمر تلك الخربشات الطفوليّة، ولكن المفاجأة أنّ نار تلك الثورة سرت في مدن وقرى سوريّة سريان النار في الهشيم حيث أنّ الشّعب متعطشٌ للحريّة تواقٌ للتعبير عن ذاته وامتلأت الساحات والميادين بالمظاهرات وحمل الناس أغصانَ الزيتون، الأمر الذي لاقاه النظام المجرم بالرصاص والنّار وتطور الأمر ليصل بالبلاد لما وصلت إليه من دمار وخراب ونزيفٌ للدماء.
مشكلتنا كشعب ثائر في سورية أننا اعتقدنا واهمين بأنّ الغرب المتحضر الداعم لحقوق الإنسان، والمدافع عن حريّة التعبير سيقف سنداً قوياً لهذه الثورة، وسداً منيعاً في وجه الأسد وآلة إجرامه، لكنّ ما حدث لم يكن بالحسبان؛ إذ أنّ الغربَ سارع إلى احتواء الثورة قبل أن يفكر الأسد بذلك أصلاً، فعملوا على إصدار التصريحات البرّاقة والداعيّة لرحيله، واتحفونا بتشكيل ما عُرف بأصدقاء الشعب السوري زعماً منهم بأن كل ذلك لدعم هذا الشعب في قضيّته ونضاله في سبيل نيل مطالبه، ولكنّه للأسف كان مسرحية من أبشع المسرحيات التي شهدها العالم، فبادروا إلى الإيعاز للدول المجاورة لسورية بفتح حدودها أمام الشعب الهارب من بطش الجلّاد، هذا زعمهم لكنّ المقصود كان مساعدة النظام في عمليّة التغيير الديموغرافي التي سعى إليها مع حليفته إيران وفي الوقت عينه لفصل المواطن الثائر عن قضيّته وعزله في مخيمات اللجوء البائسة.
ثم أوهموا العالم بأنهم سيدعمون الحراك المسلَّح الساعي لإسقاط الأسد؛ فدخل الدّعم للفصائل المسلّحة ولكنه في الحقيقة كان دعماً موجهاً لأشخاص بعينهم ليس لهم علاقة بالحراك الثوريّ، وجاهزين لتنفيذ الأوامر الموجَّهة إليهم في أي وقت كان، ومن لم يرضخ لابتزازهم كان مصيره التصفية أو العزل والتّهميش في أحسن الأحوال، ولو كانوا صادقين بزعمهم لأمدّوا الثواَر منذ البداية بمضادٍ للطيران الذي كان كفيلاً بإسقاط النّظام وتجنيب البلاد والعباد هذا الكمُّ الهائل من الضحايا والخسائر.
ثم جاء الدور على الشقّ السياسي للثورة فاخترعوا لنا هيئةً سياسية تمثل الثورة في الخارج، أطلقوا عليها مسمى ” المجلس الوطني ” والذي كان معظم أعضائه ممن عاشوا القسم الأكبر من حياتهم خارج سورية ولم تطأ قدماه ترابه منذ عقد وأكثر من الزمان، ومن كان منهم موجوداً في سورية كان أحد اثنين؛ إما أنه عاقّ ثورياً ولا ينتمي للثورة أو أنه ثائر حقاً لكنه ضاع في هذا الخضم الهائل من المأجورين، فكانت مهمة هذا المجلس إصدار البيانات والشجب والاستنكار، وتمييع الجبهات وطعنها من الخلف، فضلاً عن تلقفه للدعم المرسل للشعب السوري، وإنفاقه كرواتب لأعضائه وفي عقد مؤتمرات واجتماعات لا طائل منها.
ثم إنه عندما ترهل هذا المجلس، وبدأت الشبهات تثار حوله أتحفونا باختراع أسوء ألا وهو الائتلاف السوري وكريمته القاصرة ( الحكومة السورية المؤقتة)، ولم يكن ليختلف هذا عن سابقه كون المخترع واحد والهدف واحد، وهو الإمعان في تمييع الثورة وحرفها عن مسارها وإعطاء النظام كامل الوقت والفرصة لإكمال مهمته في قتل الشعب الثائر وتدمير مدنه وقراه.
كل هذا ما كان ليمر مرور الكرام على الثورة السورية والشعب السوري الثائر في الداخل والخارج، فعم الفساد مفاصل الثورة، وغاب المخلصون عن المشهد تاركين الساحة للمنتفعين والوصوليين الذين ليس لهم قضية ولا يحملون هماً وطنياً.
وكان ما كان من تمدد للعسكرة والسلاح، وتلاشي للوجه المدني في الثورة وبدأ يظهر التطرف، ويمتد ليجد الغرب مبتغاه والمسوغ الأكبر له في التخلي عن الحراك الثوري من خلال وصمه بالإرهاب، ولم يكن النظام ليترك هذه الفرصة تفوته فبدأ باستجداء حليفته روسيا للتدخل فكان ذلك ليسترد النظام عافيته ويستعيد مناطق مضى على خروجها عن سيطرته سنوات، كل ذلك كان سببه الأكبر الغرب ودعمه الوهمي للثورة الذي أضر بها وأنهكها.
والآن لا سبيل لنجاح هذه الثورة واستعادتها لألقها وعنفوانها إلا بعودتها لأيدي أبنائها الأوائل الذين أطلقوها وأوقدوا شعلتها.
وأيضا باستقلاليتها عن الدعم واعتمادها على ما بين أيديها من إمكانيات مهما كانت بسيطة فمن يعرف كيف تمكن الثوار في البدايات من تحرير مناطق بأكملها بأسلحة بدائية يعلم تماماً بأنه بمقدور الثوار بما يملكون اليوم أن يصنعوا المعجزات وأن ينهوا هذه المهزلة ويضعوا حداً للغرب وتلاعبه المفضوح بثورتنا والذي دفعنا ثمنه من دمائنا وأرواحنا.