لا شكَّ أنَّ قرار الثورة هو عاطفي أكثر منه عقلاني، قرار يتخذ بشكل مفاجئ من قبل الجماهير أو قسم منها، فيتحول فيه معبود الشعب، وسيد الوطن، إلى عدو الشعب وخائن الوطن، لكن هل يجب أن تكون مسيرة الثورة ذاتها عاطفية؟ الجواب لا ولسبب بسيط، أنَّ من لا يملك استراتيجية خاصة به، يسقط في استراتيجية الآخرين، ولذلك من أهم المشاكل التي تواجه الثورة السورية هي العاطفية والعاطفية المفرطة، فلا تكاد تسمع للعقل صوتا، في خضم بركان المشاعر الهدار، والثورة السورية بمجملها لا تملك خططا لا أساسية ولا بديلة، كل طرف من الثورة لديه أهداف ورؤى عامة، والأقلية من هذه الأطراف من يملك مخططات لتحقيق أهدافه ورؤيته، ولذلك أسباب كثيرة منها:
إنَّ الشباب الذي خرج في المظاهرات السلمية أول الثورة كان يحلم بثورة وردية زائفة كثورة ميدان التحرير، تنزع رأس هرم السلطة في فترة مؤقتة، وتترك جسم السلطة كما هو، بمؤسساته وأشخاصه.
وبعد أن تحولت الثورة لمسلحة، ظنَّ الثوار أنَّها ستكون كثورة ليبيا، عام وأقل وننهي النظام، إضافة إلى تعليق الآمال العريضة بالشرق والغرب من تركيا وأميركا والسعودية والأمم المتحدة ومجلس الأمن وغيرها من الدول والهيئات، وكل تلك الآمال والظنون ذهبت أدراج الرياح وعاد الثوار منها بخفي حنين.
و مع طول وقت العسكرة الثورية، زادت تجاوزات من يحمل السلاح باسم الثورة، مما وَلَّد حالة من الإحباط و اليأس في صفوف الثوار العاطفيين، الذين ينظرون إلى الثورة كشيء وردي أفلاطوني فاضل، و قيمة سامية لا تقبل الخطأ، و لا ينظرون إليها من منظور واقعي عقلاني، و انعكس هذا اليأس على الثوار إمَّا بالانضمام إلى داعش، التي يقوم منهجها من ألفه إلى يائه على العاطفة، أو بترك الثورة و مطاردة الأحلام بالعيش الرغيد على أرصفة أوروبا، و من بعدها اقتصر نشاطهم الثوري على الطعن بالفصائل و تخوينها، على مواقع التواصل الاجتماعي، و تضخيم سلبيات الثورة و الثوار، لتبرير هروبهم إلى أوروبا.
من صور العاطفية التي نعانيها أيضا، أننا دائما منفعلون مع الأحداث و لسنا فاعلين لها، يستطيع النظام دائما أن يسبقنا بخطوات و أن يتنبأ بكل تصرفاتنا العسكرية و السياسية و الإعلامية، فكأننا بالنسبة إلى النظام كتاب مفتوح يتصفحه كيف يشاء وقت يشاء، و ذلك بسبب انعدام التخطيط و العمل الممنهج عند الثوار عامة، فمثلا يستغل النظام وجود كثافة سكانية في مناطقه كحلب، أغلب من يسكن أحياء حلب المحتلة هم إمَّا ثوار سابقين أو رماديين بعد إنشاء المناطق المحررة، و كل تحرير لقرية أو مدينة أو حي، يهرب مؤيدو النظام و شبيحته باتجاه مناطقه، ممَّا يزيد الكثافة التشبيحية للنظام ضمن مناطق سيطرته، يحرك النظام آلته الدعائية و الإعلامية القوية، يفبرك مقابلات مع شبيحة تطالب بإبادة المناطق المحررة بمن و ما فيها، يبتز المدنيين و يهينهم و يمنع عنهم أبسط حقوقهم ليسلب أموالهم، ثم يتهم الثوار أنهم وراء ذلك، و بنفس الوقت يرتكب مجازر بالمناطق المحررة، و يصور أنَّ المدنيين لديه في المحتل فرحيين بهذه المجازر، تتولد ردة فعل عاطفية ممَّن يوجد في المحرر من ثوار و مدنيين ضد كل من يوجد في المحتل بسبب دعاية النظام، و تبدأ التعميمات مثل ” هدول كلن شبيحة و بدن حرق “، ” بيستاهلوا ما حدا قلن يطلعوا”، يطلق بعض الانفعاليين قذيفة على مناطق النظام، فيطلق النظام وراءها ألف قذيفة على مدنييه في مناطقه، ليتهم الثوار و يألب الناس ضدهم، و بالنتيجة النظام هو الرابح الأكبر
لا حلَّ لنا للخروج من هذا الواقع السيء والمتقلب إلا بأمرين، الأول دراسة ديننا دراسة مستفيضة، لأننا لا نعلم عن عقيدتنا التي هي صلب الدين إلا تخرصات نقلت إلينا كتراث من أجدادنا، فما بالك مثلا بأحكام السياسة الشرعية والجهاد!، ولا بدَّ أن نشير إلى أنَّ الإسلام منهج حياة متكامل، وهو منهج مثالي واقعي، لا مثالي خيالي كمدينة أفلاطون.
والأمر الثاني هو قراءة التجارب السياسية والاجتماعية والثورية، لمختلف الدول والشعوب في العالم، فقراءة تجربة الآخرين تكسبك نظرة واقعية عقلانية، وتمكنك من التخطيط السليم، وتعرفك أخطاءك، وتورثك بعد النظر وصدق الحدس.
لا ننسى أن نؤكد على فكرة أنَّ الجماهير بمختلف ثقافاتها واختلافاتها هي كتل عاطفية لا عقلانية، وعبارة عن إعصار مدمر، لا تتوقع متى يحدث، وإن حدث لن تستطيع كبح جماحه، وهذا ما ذكره جوستاف لوبون في كتابه الرائع سيكولوجيا الجماهير، لذلك لا بدَّ من وجود نخبة مثقفة عقلانية وواعية، صاحبة تأثير وقرار، تكون مهمتها توجيه الجماهير وتثقيفها، وتكوين رموز تجتمع عليها هذه الجماهير على طريق نضالها.
بقلم : جاد الحق