إلى اليوم مازالت الفجوة تتسع بين النظرية والتطبيق في مجالات التغيير والنهضة، فبينما يفتح المنظّر نافذته على لندن الجميلة (مجازاً) ليبدأ بمحاولة فهمٍ فلسفية لمشكلات قومه في الشرق، وصياغة المفاهيم التي تفسر هذه المشكلات، ويقترح الحلول الطوباوية أحياناً أو حتى تلك الحلول القابلة للتطبيق حقيقةً، يكون المعنيون في عملية التغيير ومحركات النهضة منغمسين في الاستجابة للمشكلات اليومية في مجتمعاتهم، والتصدي للكوارث التي تحيط بهم، والحفاظ على شيء من المنطق في التعامل مع الأمور التي تبدأ بالتحول إلى ظواهر غير منطقية وتجربة لا تشبهها التجارب الأخرى، وتصبح الاستجابة للصدمات هي ردود فعل عبثية في كثير من الأحيان هدفها الرئيس تخفيف الألم والوصول إلى استقرار ما غير معني إطلاقاً بحل الإشكالية.
أمام هذا الواقع المتكرر الذي يولد نفسه باستمرار في المئة سنة الأخيرة على الأقل دون وجود تجارب حقيقية تجمع الحالة التنظيرية إلى بُعدها التطبيقي المباشر والمتغير بتسارع مطّرد، تصبح مقولات النهضة والتغيير هي ترف فكري عند مجموعة من الناس، وعثرة تنظيرية غير منتهية عند آخرين.
لا حلَّ يرتجى في محاولة الجمع بين الأمرين في شخصيات قيادية أو مخلِّصة كما يحلم الناس بطريقة إعجازية تتكئ على نبوءات دينية تفعل فعلها في السيكولوجية المشرقية، كما لن ينجح الأمر باعتقادنا بسحب أحد الطرفين إلى الآخر، لأننا نعتقد أن أحد القطبين سيفعل فعله في الأشخاص وسيبدأ بإعادة تكوينهم وفق الإطار العام الحاكم فيه بين الجانب المعرفي الفلسفي المفاهيمي، والجانب التطبيقي الذي يخضع للضغوطات وتحكمه الاستجابة المباشرة.
ما يجب فعله كما نعتقد هو الاعتماد على الجيل الصلة، أو (المجموعة الصلة) بتعبير أدق، التي تربط بين القطبين وتجيد التحرك بينهما، وتمكين هذه المجموعة وإقناعها بالبقاء في المنتصف المضطرب أحياناً وغير الجذاب، هذه المجموعة التي تتكون من أصحاب البعد المعرفي في الجانب الميداني، والقريبين من الميدان بحكم التجربة من المفكرين أو المنظرين، ليستطيعوا التنقل بين المكانيين دون الذهاب إلى تخصص مرهق في كليهما.
إنهم مجموعة من الشباب المشرفين الذين يتحصنون بالوعي، القادرين على الاطلاع على المعرفة ونقلها إلى الجوانب التطبيقية، مع الامتناع عن الغوص في جاذبية وجمالية المعرفة، أو الاستجابة إلى نشوة الرضى في الشعور بالإنجاز.
إن الحفاظ على هذا التوسط أمر مرهق، فمستوى الحضور في الجانبين كبير جداً ومحقق للذات بدرجة كبيرة، أمام إرهاق غير واضح الانتماء في المنتصف إلا في درجات عليا من المسؤولية، لكن هذا المكان هو المعوّل عليه بشكل رئيس من أجل تحقيق التغيير والنهضة.
المدير العام | أحمد وديع العبسي