حارث العباسي |
تُمسي فجأة في حيرةٍ من أمرِك، يُنازعك شيئين ولا تدري لأيٍ منهما تلتفت أو تستجيب، سيبدو كل شيء طبيعياً في الحياة، لكن بعد الحدث وانطلاق كلمة من أحدهم تحتاج هنا إلى وقفة، أجل وقفة جادة حقيقية. الصراع هنا ليس بين إنسان وانسان ولا بين بلد وبلد آخر، الصراع هنا داخل نفسك، صراعك مع ذاتك. يتصارع في داخل الانسان أشياء كثيرة، منها تنافس الإيمان واللا إيمان، أو تداعيات الحُب والكُره، أو تجاذبات الخير والشر. ما زال صديقي الذي يجلس معي كثيراً يُحاورني يَستفز قناعاتي أو يزلزل معتقداتي الراسخة لأُعيد تشكيلها على نحو منطقي عقلاني، في جلسة قلما تحدث بهذا العمق والمنطق، جلسة استشارة أو طلب رأي سمّها ما شئت لا يعني نوع التسمية بقدر ما يريد صاحب المشكلة أن يصل إلى حل لمشكلته.
أخذ صاحبي مُتحدثاً عن نفسه وعن الذي حدث معه بالضبط، قائلاً: في مكان ما جلست مع مجموعة من المثقفين والاُدباء على اختلاف مسمياتهم، الأمور طبيعية جداً، المكان رائع خصوصاً مع أجواء البلاغة وأوتار الكلمة العذبة الحرة. انتهى اللقاء على عجل وبدأ الكل يشرعون بحزم أمتعتهم للخروج والعودة إلى أعمالهم أو منازلهم. ربما جميعهم عادوا بسلام وراحة بال لا يبهون لشيء إلا أنهم استمتعوا وقضوا أوقاتٍ جميلة مع هذه الكوكبة، إلا صاحبي لم تكن عودته بهذه البساطة. لقد عاد وهو يحمل شيئاً آخر وتنافساً حقيقياً في داخل نفسه، لم يتجلَ له الأمر، لكن الأمور ليست دائماً تأتي على مراد وأمزجة البشر.
يستأنف صاحبي الحديث وهو يعاني صِراعه الداخلي يتحدث عن قصته، بينما قرر أن يخرج اعترضته فتاة صغيرة لا يتجاوز عمرها العشرون عاماً، يبدو على ملامحها الحياء واضحا جليًّا. طلبت منه طلباً صغيراً أن يكونا أصدقاء على وسائل التواصل الاجتماعي. لم يكنْ له بُد، ليرفض لأن هذا العالم أصبح للجميع ذُكوراً وإناثاً يدخل كل إنسان بما يحمل من قيم ومبادئ وأخلاق بهذا العالم يعيش بعضهم شخصية وشكل آخر في هذا العالم، يختلف تماماً عن شكله الحقيقي في الواقع. مشكلة العالم الْيَوْمَ هو أنه مُتعدد الوجوه، إلى هنا صديقي حياته طبيعية جداً تمشي بتجديدها الفكري، لكنه هنا يأخذ نفساً عميقاً فليس كل ما يخرج من قلب الانسان أو عقله ينطلق بسهولة.
التجارب التي تُعاش تكون متعبة جداً والحديث عنها مُؤلم بنفس الوقت، وكعادة الذين يوفون بالعهد فقد كان الطلب أن نكون أصدقاء، فعلى أساسه نتعامل مع الآخرين ذكوراً وإناثاً. رغم أني لا أميل كثيراً للصداقات ما بين الذكور والإناث خصوصاً في العالم الافتراضي، ولكن حدث ما لم يكنْ بالحسبان. تعرفا على بعضهما من خلال المحادثة كتابات، وشَعَر صاحبي بالراحة بعد أن كانت الصفحة رسمية وبصورتها الشخصية. استمرا بالتعارف، وكان هناك حديث مستمر بشكل يومي أو شبه يومي، تبدأ هي بالسؤال، وبعض أحيان يبدأ هو بالسؤال عنها. لا بأس فَهُم أصدقاء، والسؤال بين الاصدقاء محموداً وليس مذموماً.
تمضي الأيام مسرعة، وفي أحد المرات بينما هم يتحادثون، انطلقت هي متحدثة: لتخبره بأنها معجبة به منذ اللحظة الأولى التي رأته فيها، أو منذ أول دخولها للمكان، ولكن ما عساه أن يفعل. ما يعني أن تكوني معجبة بهذه السرعة المفرطة، لكني قلت لصاحبي: هي معذورة سيدي، فالحب يدخل أحياناً إلى القلب بلا استئذان، فلطالما دخل بيوتاً دون أن يطرق أبوابها، رغم أن مجتمعي يرفض رفضاً قاطعاً أن تُبدي الفتاة إعجابها بشخصٍ ما فيعدُ من معايبها وقلة ذوقها وأخلاقها، فالنظرة الذكورية لها لم تنتهِ منذ الجاهلية الأولى إلى جاهلية القرن الواحد والعشرين التي تجلت بصورٍ أخرى غير صور الوأد القديمة. على كل حال يتوجب عليه أن يُجيب هذه المرة، والصدق في الحب مطلوب، وعرفتهُ صادقاً وصريحاً في الحب وغيره.
قال لها: لم نتعرفْ على بعضٍ بشكل جيد، ما رأيتِ في هذه الشخصية كي تُعجبي بها. قلت له: يا سيدي إنه الحب يبتعد عن العيوب ليبحث عن المزايا، وهي قد وقعت بهذا للأسف، وليتها لم تقعْ به. أجابها: بأن الحبَ له هدفٌ علينا أن نسعى إلى تحقيقه، ولا أظنني قادرٌ على ذلك، في هذه الظروف. فضلاً أنكِ تنتمي إلى بلدٍ غير بلدي، وفي مدينتي التي نشأتُ بها، يتشددون مع قبيلة أخرى من نفس البلد، فكيف إذا كنتِ من بلدٍ وأنا من آخر. الهوة الكبيرة والتحديات صعبة جدّاً يا صغيرتي، والعادات والتقاليد المغايرة أنى لنا أن نوازن بينها.
ثم التفت إليّ وقال لي: أشرْ عليّ يا صديقي: آه يا سيدي حيرةٌ والله حين تتصارع رغبة القلب مع موازين العقل، وحين تقف العادات والتقاليد في وجه الحب والمحبين، وحين تتصارع رغبة الأهل ورغبتنا. صراعاتٌ كثيرةٌ جدّاً، لا أدري بماذا أشيرُ عليك؟ إلا أنني أقول لك: إذا كنتَ مُستعداً للتضحية وقادرٌ على المواجهة، فلا تتخلى عنها بسهولة وأخبرها: أن إعجابها سيُقابَل من الحب منك، وإن كنت غير ذلك فانصرفْ عنها واتركها ولا تكسرْ قلب أنثى، فكل شيء يُغفر وقابلٌ للمسامحة، إلا كسر قلب أنثى، فإنه ذنبٌ لا يُغفر.