لا أعرف لمَ يصرّ البعض على تقديم الحلول للشعوب العربية ولنهضتها على الطريقة الأوروبية الغربية عمومًا، ضمن قالب يكفر بالتاريخ أو على الأقل يجعله أقل قيمة حضارية بالنظر إلى المنجز الغربي الأوروبي! ودائمًا ما تُوجّه التهمة لمن ينقبون في التجربة التاريخية الحضارية للشعوب العربية الإسلامية بأنهم ينبشون القبور في محاولة لإحياء تراث عقيم، أو ما عاد فيه ما يصلح للتجربة الحداثية التي تجاوزت نفسها وانطلقت لما بعد الحداثة.
يتجاهل هؤلاء أن التجربة التي يسعون لتقليدها هي تجربة لم تنفصل عن تاريخها، وإنما عملت على بعثه ضمن قيم جديدة تستطيع من خلالها متابعة السيرورة الحضارية التي تعود إلى عهود أثينا وبيزنطة وإسبارطة وروما ولشبونة، عبر إعادة تشكيل كل ما ينتمي له الإنسان الغربي ضمن قوالب جديدة تناسب العصر الجديد والهيمنة الجديدة.
ولأنهم يؤمنون بدور التاريخ والتجربة الحضارية في تشكيل وعي الإنسان وانتماءاته الكبرى، عملوا جاهدين على تصدير الموروث الثقافي والمنجز الحضاري للشعوب الأخرى على أنه الشكل الوحيد الذي تتم به صناعة النهضة، وبالتالي ستصنع جميع شعوب العالم نهضة الثقافة الغربية ولن تصنع نهضة الهوية التي تنتمي إليها.
ورغم معاينتنا للتجربة الحداثية وما بعدها، ومعرفتنا الجيدة لعمق فشلها على الصعيد الاجتماعي المباشر، وعلى الصعيد الإنساني العام، مايزال الكثير من مثقفينا يصرون على ترديد مقولات الحداثة وأدواتها كمعوذات للخلاص والانعتاق من الواقع المتخلف الذي نعيشه، فضلًا عن إدراكنا أنّ تلك الحداثة هي سبب أساسي لشرعنة الاستبداد في منطقتنا وسرقة ثرواتنا من قبل حكومات وأنظمة أنتجتها تلك القيم التي ندعو لها اليوم كببغاوات بلهاء غير قادرة على إنتاج مفردات جديدة.
لا يمكن لأي أمّة أن تحقق نهضة حقيقية دون الارتكاز إلى عاملين اثنين، لا يسع تجاهلهما مطلقًا، ولا حتى كحالة مؤقتة ندّعي أننا قادرون على علاج آثارها فيما بعد، بسبب حاجتنا كما يقول بعض المثقفين للخروج من عنق الزجاجة المغروسة في الماضي ولو اضطررنا إلى كسرها، ثم سنملك الوقت لصناعة قالبنا الخاص الذي يختلف عن القوالب الحضارية التي ندعو لها، أو نبقى ضمن مساحة الانفتاح والحرية دون الحاجة إلى قولبة كما يدّعي آخرين، حالة مليئة بالانتماء للفراغ والعبث واللاغاية.
العامل الأول يتمثل في فهم التاريخ على أنه مكون إنساني يرتبط بالأصالة والهوية والتكوين النفسي والعضوي للإنسان، ومحاولة تجاهله هي محاولة لإنتاج العطب المستقبلي وتكوين شخصية مشوهة ذاتيًا في بنيتها الثقافية والحضارية والنفسية.
والعامل الآخر يتمثل في فهم العالم الجديد ضمن القيم الأصيلة والمبادئ الأساسية التي تشكل المرجعية الحضارية وتنطلق عنها الغاية التي تعيش شعوب هذه المنطقة في سبيلها، لأنها لا يمكن أن تكون منفصلة عنها ولا للحظة واحدة إلا عندما ينعدم وجودها بشكل نهائي أو مؤقت.
المدير العام | أحمد وديع العبسي