مهما اشتدت وطأة المواجهات المباشرة والحروب القاسية بين الحضارات فهي غير قادرة على الانتصار إلى الأبد، تمضي السنوات طالت أم قصرت ثم يستعيد المغلوبون قوتهم ويثورون من جديد ويحققون النصر ويستعيدون حقهم كاملاً وتعود حضارتهم للازدهار مرةً أخرى.
ولم تستطع أي حروب دموية إفناء حضارة عريقة أو القضاء على ثقافة أو دين أو تغيير بروتوكولات اجتماعية معينة، كان يكفي بقاء مجموعة صغيرة على قيد الحياة لتعيد إنتاج الحضارة من جديد.
كان هذا واضحاً للجميع على مدار آلاف السنين الماضية، لذلك اتسمت الحروب الحديثة بحروب ثقافية ممنهجة إلى جانب الحروب التقليدية، أو بشكل مستقل عنها، هذه الحروب هي التي حققت انتصارات كبيرة جعلت المدافعين في مواجهات مرهقة تجاه الدماء والثقافة مرة واحدة.
لن يكفي أن تزيل عدوك إذا استطاع أن يترك تعاليمه تنبت في أرضك الخصبة، فهو مهما تمت إزالته سيعود للتكاثر من جديد؛ لأنه أصبح أفكارًا وعقائد جاهزة دائماً لتخريب عقول الأجيال المنتصرة وهزيمتها من الداخل كأورام خبيثة قاتلة تجعل المجتمعات معدومة الهوية أو لاهثة وراء هويّات مستعارة لا تستطيع تحقيق أي انتماء للوطن، وقاصرة عن تحقيق الانتماء للآخر، فهي تخلق فوضى كبيرة تسمح فقط بنمو ثقافة التبعية والاستعباد، والافتتان بالعولمات العالمية، والسعي للتقليد الفارغ الذي لا يستند لأي جذور أصيلة ولا يمتلك فهم الثقافة التي يقلدها.
عندما تنتشر المصطلحات التي لا يفهمها أحد، وتتم الدعوة إلى قيم لا أُسس لها عند الناس وغير واضحة كفاية عندهم، ويوجد من يصرُّ على تناولها ببساطة وجرّ المجتمع لها، عندها فقط بإمكانك أن تعلم أن الداء بدأ بالانتشار، وأن البهرجة التي يتلقاها الناس من ترديد مقولات لا يفهمونها تماماً قد جلبت عليهم العمى، وأن التأنق بلباس الآخرين سيجعل الحرب الداخلية عنيفة من أجل ألا تتعرى وجوه الجهلة الذين يلعبون هذه الأدوار كمبشري الثقافة الجديدة.
لم تكن أبداً محاربة الحق مخيفة رغم كل الخسارات التي أصابته على مرِّ التاريخ، كان يستطيع أن يجمع حوله الناس من جديد ليقف منتصراً مرة أخرى ولو بعد عشرات السنين، لكن ليَّ عنق الحق، وتضييعه بين الناس، وجعل الباطل شبيهاً به، وإيجاد مفردات جديدة للتعبير عنه بحجة الواقعية بكافة أنواعها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، تجعل الناس تدخل في مواجهات عبثية معدومة القضية سرعان ما ينفضون عنها إلى أمورهم الشخصية الضيقة في محاولة لإنتاج هوية خاصة تسمح لهم بالعيش، وكل الطرق الأخرى تصبح تقود إلى جهات مجهولة غير جديرة بالمتابعة.
المدير العام | أحمد وديع العبسي