بقلم مدير التحرير
نعم الحلم، فهي ساحة واسعة لم يكن السوريون يستخدمونها للتعبير عن آرائهم دون أن يجدوا أنفسهم خلف القضبان، فكان السوري يغمض عينيه كي لا ترى الجدران ما يحدّث به نفسه خشية أن تظهر جنود المخابرات من خلف دهان الحائط، أو من بين كتبه ودفاتره، أو من ربطة الخبز الممتلئة بالذل والمهانة، وتتهمه بالخيانة الوطنية أو انعدام الحس الوطني لديه، وتزج به في غياهب السجون.
وقد كسّر السوري هذه الجدران فوق رؤوس ساكنيها من عصابات الأسد مع أول صيحة في الثورة السورية، فبات يعبر عن رأيه بملء صوته ويُخْرِج ذلك السيل من الحرية التي كانت تُخنق في داخله، ليجرف به الرقابة الأمنية.
استيقظ هذا الحلم من ثباته ليرَ النور، ورغم ذلك ما زال هذا النور يحمل في سمائه ما يعكر صفوه، فكثيرة هي الصعوبات التي تؤرّقه، فالحرية التي فرح بها الإعلاميون في بداية ثورتهم لم تدم طويلاً حتَّى صاروا أهدافاً لمختلف التنظيمات، وعادت كلمة الحق لتحارب من أعدائها، فالسجون غصَّت بهم، والمقابر عادت لتستقبل أقلامهم، والتسلط والرقابة عادت لتكون وصياً عليهم لكيلا يخرجوا عن حدود رسمت لهم، وأعطيت لباساً شرعياً في كثير من الأحيان ليسهل القضاء على من يخالفها. فرغم التخلص من آذان النظام وبطشه، ومن داعش واغتيالاتها، وتحسّن الواقع الإعلامي نوعاً ما، لم نتخلص من بعض المضايقات من بعض الكتائب، فتكررت الاعتقالات التعسفية بسبب تحدّث كاتبها عن فصيل معين أو عن شخصية تتبع لفصيل آخر، ووصل في بعض الأحيان إلى منع توزيع عدد من صحيفة معينة لأنَّها تحمل في طياتها مقالاً لا يناسب ذاك الفصيل العسكري أو غيره، أو بتهمة أنَّها تروّج للديمقراطية الكافرة والعلمانية الملحدة، أو غير ذلك من المصطلحات المحرمة والتي يمنع تداولها في بلد تسفك في الدماء لأجل الحرية.
هذا الأمر جعل معظم الإعلاميين يعملون بأسماء وهمية كيلا تطاله أذرع الأمن الجديد، وجعل البعض يدخل في مقارنة مع الإعلام قبل الثورة ويشبّه هذا بذاك ليحاول إيجاد الفوارق بعد أن ضاق عليه صوته من جديد، وشعر أنَّ الحرية التي يحلم بها مازالت مقيدة من مكان ما، بحسب ما يناسب أصحاب القوة الجدد.
قد لا نوافق على هذه النظرة التشاؤمية، فلا بدّ من إنصاف الثورة ومؤسساتها، وبأنَّها على بساطتها قد فاقت إلى حدٍ كبير مؤسسات كثيرة في بعض بلدان الظلام العربي وليس فقط في سوريا قبل الثورة، ولكنّ التصرفات غير المسؤولة من البعض تجعل العقل يذهب إلى المقارنات، وليس في ذلك لومٌ على الثوار، لأنَّ الثورة تنشد الكمال وإن لم تصل إليه، ولكن اللوم على من تولى شؤون المناطق المحررة في أن تمر عليه هذه الحوادث وهو صامت لا يلقي لها بالاً، وكأنَّ الأمر لا يعنيه.
نحتاج اليوم أن نقف إلى جانب بعضنا بمزيد من الثقة والحرص والتواصل لكي نحسن البناء، فالإعلام مازال يفتقر إلى كثير من المهنية في بلدنا، وكذلك من يعتبرون أنفسهم حماة لهذا البلد، ما زالوا يحتاجون الكثير من المهنية ليحسنوا التعامل معه، خطوة إلى المنتصف لنصل معاً إلى حيث نقف، ونستمع إلى بعضنا بشكل أفضل.