بريطانيا الإمبراطورية الاستعمارية التي ظلت لقرون لا تغيب عن مستعمراتها الشمس ، والتي تعتبر اليوم ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا ، والدولة التي تمتلك ترسانة نووية تضعها في المرتبة الرابعة عالميا ، وهي عضو دائم في مجلس الأمن الدولي،وهي الجسر التقليدي بين أوروبا والولايات المتحدة عبر المحيط الأطلسي .هذه الدولة اليوم تسبب واحدة من أكبر الأزمات الجيوسياسية في تاريخ أوروبا الحديث .
كان التحالف الفرنسي الألماني هو حجر الزاوية التي اعتمدت عليه ديناميكيات القوة الأوروبية. فالصراع بين هذين البلدين أدى إلى ثلاث حروب قارية بين عاميّ1870و1945، وإنهاء هذا الصراع سهّل عملية السلام بعد الحرب العالمية الثانية،وزرع بذور التكامل من خلال الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف. ولكن فرنسا وألمانيا ليست هي الدول الوحيدة التي تشكّل مسار أوروبا؛ إذ أنَّ الفاعل الثالث الذي كان يلعب على الدوام دور الوسيط بين البلدين، ويعمل على استقرار العلاقة بينهما، واتزانها إزاء المواقف المتباينة على مستوى القارة، هي المملكة المتحدة ، لذلك فإن الخروج البريطاني اليوم من الاتحاد الأوروبي هو قفزة هائلة في الظلام ، لا يدرى أحد حجم تداعياتها وآثارها الجيوسياسية .
ان دخول بريطانيا للاتحاد الأوروبي كانت اشبه بالمخاض العسير ، فكدولة جزيرة، كانت بريطانيا محميّة من الأحداث الجارية في البر الأوروبي طوال تاريخها. ولذلك، كان تدخل المملكة المتحدة في الشؤون القارية كان مقتضبا ، ولضمان أن يبقى توازن القوى والانتشار بدرجة كافية للحفاظ على بريطانيا آمنة. وعندما تأسست منظمة السوق الأوربية المشتركة، ردّت لندن في البداية بشكّ، وحذّرت من أي مشروع من شأنه نقل المزيد من السيادة من البرلمان البريطاني إلى التكنوقراط غير المنتخبين في بروكسل. وبريطانيا كانت تعتبر نفسها أعرق الديمقراطيات الغربية ، والإمبراطورية صاحبة التاريخ العريق ، لا تغرب عن مستعمراتها الشمس ، لذلك كان البريطانيون يأنفون من أي سياسات جمعية تلزمهم بمواقف غير نابعة من قناعاتهم السياسية .
ـ أيضا كانت فرنسا ـ المنافس التقليدي لبريطانيا في الحقبة الاستعمارية ـ حريصة على إبقاء بريطانيا خارج الكتلة، وشعرت بالقلق بشأن منح العضوية داخل منظمة السوق الأوربية المشتركة لبلد وصفه شارل ديجول بأنّه “حصان طروادة الأمريكي في أوروبا”وكان ديجول أيضًا مترددًا إزاء إدراج الدولة الوحيدة في أوروبا الغربية القادرة على التنافس مع فرنسا لقيادة الكتلة. ولم يكن مفاجئًا، إذن، عندما اعترضت فرنسا على عضوية بريطانيا مرتين في فترة الستينات.ولكن في أوائل السبعينات، تغيّرت الأموركثيرا ، وسهلت عملية الانضمام البريطاني للاتحاد الأوروبي ، فلم يعد ديجول رئيسًا لفرنسا، وأدركت باريس وبرلين الأهمية الجيوسياسية لتوسيع عضوية منظمة السوق الأوربية المشتركة عبر القنال الإنجليزي، وفقدت لندن إمبراطورتيها، وكانت في خضم إعادة تقييم أولوياتها الدولية وعلاقاتها التجارية. وبالرغم من أنّها رأت عضوية منظمة السوق الأوربية المشتركة كفرصة للتأثير على عملية التكامل القاري، إلّا أنَّ مصلحة بريطانيا في الوصول إلى السوق الأوروبية المشتركة تفوقت على تطلعات فرنسا وألمانيا لبناء أوروبا الاتحادية. وعلى عكس فرنسا وألمانيا، لم تكن بريطانيا متحمسة لتحويل القارة إلى الولايات المتحدة الأوروبية.
و منذ بداية الدخول البريطاني للاتحاد الأوروبي ظهر التباين بين الرؤى البريطانية، وسائر دول الاتحاد ، فقد دخلت أثناء إدارة رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر. وتحت قيادة زعيم حزب المحافظين، ضغطت بريطانيا من أجل خفض مساهمتها في ميزانية منظمة السوق الأوربية المشتركة وإزالة الحواجز التجارية داخل الكتلة. في خطاب بروج الشهير لتاتشر، رفضت فكرة أوروبا الاتحادية، وبدلًا من ذلك وصفت المنظمة القارية بمثابة اتفاق بين الدول ذات السيادة لإقامة تجارة حرة ،وبعد سنوات قليلة، تفاوض خليفتها، جون ميجور، بشأن خروج بريطانيا من منطقة اليورو.
كما دعت تاتشر إلى توسيع منظمة السوق الأوربية المشتركة ناحية الشرق، وهي استراتيجية استمرت ثابتة لدى الساسة الانجليز حتى توني بلير في بداية عام 2000. والهدف الرئيسي هو جلب الدول الشيوعية السابقة تحت مظلة قارية أسرع من انتقالها إلى اقتصاد السوق وخلق أيضًا المزيد من الطلب على الصادرات البريطانية. وكدفعة معنوية إضافية للندن، توسّعت الكتلة إلى كيان أكبر وأكثر ارتباطًا ساعد على تخفيف قبضة فرنسا وألمانيا على أوروبا. وطبعا كانت هذه السياسة بوحي وطلب أمريكي صريح أثناء الحرب الباردة مع السوفييت .
ولكنَّ نهج بريطانيا حقق نتائج متباينة وربما عكسية . فلقد انضم عدد قليل من الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي لمنطقة اليورو ، ولكنها كانت دول ذات إشكاليات كثيرة ، فقد أدى قبول بلدان مثل بولندا ورومانيا إلى زيادة كبيرة في الهجرة إلى المملكة المتحدة، وهو التطور الذي ينظر إليه أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على أنّه السبب الرئيسي لترك الكتلة.
كما انه عند الإعلان عن الاستفتاء البريطاني أثيرت العديد من التوقعات حول العواقب الاقتصادية والمالية للتصويت بمغادرة الاتحاد الأوروبي. فالخروج يعني سيادة حالة عدم اليقين وهي العدو اللدود للنمو الاقتصادي والاستقرار المالي، ولكن يبقى إنَّ التأثير الأساسي سيكون جيوسياسيًا، يهز أسس ميزان القوى في أوروبا والعالم بأسره ، وسيجبر الاتحاد على إعادة النظر في دوره في العالم.
ـ فالانسحاب البريطاني سيخلل قاعدة توازن القوى التي ضمت الاستقرار الأوروبي لسنوات طويلة ، فحالة العداء الألماني الفرنسي لم تندمل مهما طال عليها العهد ، فهي ميراث الأجداد وحصاد القرون ،وألمانيا تعتمد على دعم بريطانيا عندما يتعلق الأمر بتعزيز التجارة الحرة في مواجهة نزعات الحماية في فرنسا. وفرنسا ترى بريطانيا مجرد شريك رئيسي في مجال الدفاع وثقل موازٍ للنفوذ الألماني. وبالتالي، فإنَّ إزالة بريطانيا من المعادلة يدمر هذا الترتيب الضعيف في وقت خطير بشكل خاص لأوروبا المتشرذمة للغاية، في وقت لا ألمانيا ولا فرنسا راضية عن الوضع الراهن.
ـ الانسحاب البريطاني، سيؤدي إلى زيادة التوتر بين شمال القارة وجنوبها. فدول جنوب أوروبا تريد تحويل الاتحاد الأوروبي إلى اتحاد تكافلي تعاوني لإعادة توزيع الثروة من الشمال الغني نسبيًا إلى الجنوب الأقل تطورًا ، ومشاركة المخاطر بالتساوي بين الأعضاء. في حين أن دول الشمال حريصة على حماية الثراء الذي تتمتع بها وستوافق على تقاسم المخاطر في حال فرضت الكتلة سيطرة أكبر على قدرة الجنوب على الاقتراض والإنفاق.ويختلف الشمال والجنوب أيضًا على الكيفية التي ينبغي أن يستخدم بها الاتحاد الأوروبي الأموال. يدعو جنوب أوروبا إلى الدعم السخي للزراعة والتنمية، وهو رأي تشاركه معظم دول أوروبا الشرقية، ولكن شمال أوروبا يفضّل تجميد أو حتى تخفيض ميزانية الاتحاد.
ـ وكما سيحدث شقاق بين الشمال والجنوب ، أيضا سيحدث خلاف أكبر بين الشرق والغرب ، فدول أوروبا الشرقية والوسطى ترى بريطانيا كمدافع عن مصالح الأعضاء من خارج منطقة اليورو، والعديد يشاركون وجهات نظر لندن بشأن سيادة الدول الأعضاء. بولندا والمجر وجمهورية التشيك، على سبيل المثال، هم من بين الدول داعمة بشكل عام للاتحاد الأوروبي ولكنها تشكّك في محاولات بروكسل للتدخل في شؤونها الداخلية. كما تتعاطف هذه الدول مع حملة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لإعطاء البرلمانات الوطنية المزيد من القوة لمنع تشريعات الاتحاد الأوروبي من التدخل في الشأن الوطني للدول. ترى بولندا ودول البلطيق بريطانيا كشريك حاسم بشأن مسألة روسيا، نظرًا لأنَّ لندن ناضلت من أجل اتخاذ موقف أوروبي صارم ضد موسكو ردًا على ضمها لشبه جزيرة القرم. وفي حال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فإنَّ حلفائها في أوروبا الشرقية والوسطى قد يصبحون أكثر عزلة عن بروكسل في نهاية المطاف.
ـ الانسحاب البريطاني سيعزز أيضا من تواجد الأصوات اليمينية في القارة العجوز والتي شهدت صحوة كبيرة منذ عامين وتمثل في تحقيق الأحزاب اليمينية والقومية المتطرفة لانتصارات كبيرة في الانتخابات البرلمانية والمحلية . ففي ألمانيا يوجد حزب ألمانيا القومي ، وفي فرنسا حزب الجبهة القومية ، وفي بريطانيا حزب استقلال بريطانيا ، وفي اليونان حزب الفجر الذهبي ، وفي هولندا حزب من أجل الحرية ، وفي إيطاليا حزب الخمس نجوم ، وفي بلجيكا حزب المصلحة الفلاندرية، وفي النمسا حزب الحرية ، وفي المجر حركة يوبيك “الحركة من أجل مجر أفضل ” هي الحركة الفاشية الأشهر الآن في أوروبا والأكثر شعبية في بلدها، وهي أحد أكثر الحركات اليمينية تطرفًا ومعاداة للإسلام والمسلمين ،وفي بلغاريا حركة أتاكا النازية، وفي الدنمارك حزب الشعب القومي ، ولا يكاد توجد دولة أوروبية إلا ويوجد بها أحزاب عنصرية وقومية وكل هذه الأحزاب تتمتع بوجود سياسي لافت في بلادها ، والعجيب أن كلها بلا استثناء قد رحبت بالخروج البريطاني ورأته انتصارا للرؤى الوطنية والقومية . فقد أشادت زعيمة حزب الجبهة القومية الفرنسي”مارين لوبان” بالقرار البريطاني، واصفة إياه بـ”انتصار الحرية“. في حين دعا خيرت فيلدرز، زعيم الحزب اليميني المناهض للهجرة، لإجراء استفتاء على عضوية هولندا في الاتحاد الأوروبي بعد نتيجة بريطانيا قائلًا: “نريد أن نكون مسؤولين عن بلدنا، أموالنا، حدودنا، وسياسة الهجرة الخاصة بنا ” .كله هؤلاء المتطرفون أشادوا بالخروج البريطاني ، ومعهم بالطبع عرّاب التطرف والعنصرية الجديد ” ترامب ” .
ـ مغادرة بريطانيا للإتحاد الأوروبي أصبحت حقيقة واقعة، والتداعيات الضيقة والمباشرة لذلك تتجاوز مجرد انقلاب وتحوّل المواقف السياسية، تمزيق الولاءات الحزبية التقليدية، واستقالة رئيس الوزراء، لتشمل القارة بأكملها، لا بل العالم بأكمله ربما؛ فبريطانيا، وأوروبا بالتبعية، لن تعودا كما عهدناهما سابقًا بعد اليوم. ، فالعاصفة البريطانية قد بدأت وأطلقت لعبة الدومينو العالمية والتي لا يدري أحد مهما كان نفوذه وقوته ومعرفته ، التنبؤ بآثار هذا الخروج وتداعياته على كل الأصعدة والمستويات .
ولعل أفضل نتيجة للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي؛ هو الإطاحة بأسوأ رئيس وزراء بريطاني منذ عهود ، فقد كان كاميرون مثالا للسياسي المعادي للعرب والمسلمين ، ويتبنى أجندة متشددة على الدوام ضد قضايا العرب والمسلمين، لذلك في حين كان الاهتمام الأوروبي والعالمي منصبا على دراسة التداعيات الجيوسياسية والاقتصادية للخروج ، كان الاهتمام الإسرائيلي منصبا فقط على التحسر على رحيل كاميرون الصديق الوفي للكيان الصهيوني ، فقد قال جلعاد أردان، وزير الداخلية الإسرائيلي : ” استقالة كاميرون أمر محزن ومؤسف، ولكنها تثبت كم هو قائد مسؤول ومحترم ، وطوال السنوات التي قضاها كرئيس للوزراء، طوّر كاميرون علاقات صداقة عميقة مع إسرائيل “.
وأخيرا فإن الخروج البريطاني رسخ لمصطلح ديجول الشهير في وصف بريطانيا ” بحصان طراودة أمريكي ” ، وأكد صحة وجهة نظره في الانجليز ، وأنهم سيتسببون في انهيار الوحدة الأوروبية على المدى الطويل . فالرجل قد انتصر وهو في قبره!
المصدر: مفكرة الاسلام بقلم شريف عبدالعزيز