الثورات تُسرق من دساتيرها التي تتولد عقب التوجه إلى الحل، فأحد أسباب تغيير الدساتير وفق الاستقراء التاريخي قيام احتجاجات في البلاد تنتهي بتغيير الدستور أو تعديله بحسب ما يُتفق عليه؛ وذلك تلبيةً للمطالب التي انتفض الشعب لأجلها، إلا أنه غالبًا ما تبقى روح الاستبداد ماثلة في طبع الطغاة، فيلجؤون إلى إعادة تكوين حالهم وهيكلة أنفسهم عبر الدستور الجديد نتيجة تمرسهم بالطغيان ومعرفتهم دقائق الأمور القانونية التي يمكنهم النفاذ منها، لذلك فإن الحفاظ على المكتسبات وصونها للأجيال القادمة يكون من خلال الأهمية الكبيرة التي يجب أن تُعطى أثناء وضع وثيقة جديدة للبلاد (حتى ولو كانت ذات صيغة انتقالية) يتفق عليها كل الأطراف.
في الفترة الأخيرة عاد ذكر اللجنة الدستورية والحديث عنها مرة أخرى بعد أن أُقرت في سوتشي بداية العام الحالي، فكثرت الأقاويل بين رافض لها ومؤيد ولسان حال الشارع يقول “لا دستور ولا إعمار حتى إسقاط بشار” صحيح أن النظام قائم حاليًا، وصحيح أن الحديث عن الدستور كمن يضع العربة أمام الحصان، وصحيح أنه لا يوجد بيئة حاضنة ولا آلية توضح خروج الدستور سوى وجود لجنة مكونة على مبدأ الثلث، لكن في المقابل ماهي الممكنات التي يمتلكها السوريون إذا قالوا لا للجنة الدستورية؟! الإجابة بالسؤال الآخر: هل ثمة قرار سوري للمعارضة أو النظام؟! وقد تم فرض اللجنة الدستورية كعدد من القرارات المصيرية التي أُبرمت بمعزل عن السوريين.
الدول الموجودة على الأرض السورية باتت هي من تقرر بحسب المصالح السياسة فيما بينها، لكن السؤال الأهم ما مدى سيطرة النظام نفسه على هذه اللجنة ومدى نجاحه بفرض ما يريد لإعادة تدوير نفسه من جديد؟ في الحقيقة إن اللجنة الدستورية المفروضة على طرفي الصراع وتقسيمها بحسب مبدأ الثلث يدل على تساوي المعركة الدستورية وخوضها في حال أُعطيت حقها من الأهمية من قبل المعارضة، وإن الحكم عليها سلفًا بالفشل أو تصدير دستور من طرف واحد بناء على أن اللجنة مفروضة أصلاً لهو هروب من معركة تعدُّ الأفضل في التكافؤ بالنسبة إلى السوريين خاصة في ظل وجود ضامنين لكل الأطراف، فالمعارك العسكرية السابقة بدا تفوق النظام فيها جليًّا وكنا دائمًا في ظل شكوى السلاح وعدم التكافؤ في ساحة المعركة العسكرية.
لا أقول من خلال ما تقدم إنّ خيار اللجنة الدستورية هو المُخلص للسوريين وعدم الذهاب إليه أمر خاطئ، إنما أرى فيه ساحة نزال تحمل فرصًا مهمة ويتوجب الإعداد لها على أعلى المستويات. فالدستور جزء من مشكلتنا مع النظام وليس كل المشكلة، وهو الجزء المؤسس لحياة الحرية المنشودة، وليكن بعدها ما يكون من استكمال للمعارك الأخرى، ولنعلم أنّ ساحات المواجهة كثيرة لا يلغي بعضها بعضًا إلا عندما نقرر نحن ذلك، فربما يكون الأمر جدّيًّا ونحقق بعض المكاسب المهمة، وربما تكون اللجنة تمرير للوقت لا أكثر.