عزيزي يا صاحب الظل الطويل .. مضى وقت ليس بالقليل منذ أن راسلتك آخر مرة، اليوم سوف أحدثك عني قليلاً ربما أكثر من القليل بقليل، فأنا أعرف عنك الكثير، ومن الغُبن ألَّا تعرف عني بالقدر نفسه على الأقل.
أخبرتك فيما مضى أني من عشاق التاريخ، وحدثتك عن رغبتي بالتخصص الأكاديمي في هذا المجال، لكن رغبة والدي، سامحه الله، حالت بيني وبين أول أحلامي.
لكن الشغف لم يتوقف، فما زلت أربط كل تفاصيل حياتي مهما كانت بسيطة بوقائع تاريخية بارزة، وهل من حدث أبسط من قدومنا إلى هذه الحياة وأعظم من ولادة ثورتنا؟!
اسمعني جيداً يا عزيزي، في الرابع عشر من آذار من كل عام يفترض أن أحتفل بعيد ميلادي السنوي، ففي ذلك اليوم نفسه من عام 2011 بلغت صغيرتك الثانية والعشرين، وبعد يوم واحد منه دخلت ثورتنا يومها الأول، فامتدت خيوط الحرية لتلامس شِباك أرواحنا المتعفنة في ظلام الاستبداد، فشع نور الفكرة وانجلى الحق أبلج، وانطلقت داخلي الأنثى التي لم أعرف أنها تسكنني من قبل.
اقرأ أيضاً: الرسائل التي لم تكتبها “جودي آبوت” لصاحب الظل الطويل (الرسالة الأولى)
بالنسبة إلي يا عزيزي كانت السنة الأولى من الطريق كفيلة بارتدائي النظارات الطبية، ليبادرنا المغردون والمحللون أن ثورتنا تحتاج عشر سنوات ليكتمل نورها ويشتد عودها وتتوج عروسًا للمجد مستحقة لصداق الدم.
آآآه.. لقد كانت الفكرة رهيبة في البداية، أي أنني سأغادر العقد الثاني من عمري ليكتمل قمري ثم يبدأ بالأفول دون أن أستشرف مصير حلمي الثوري أو ألتمس بوادر انتصار أسطورتي الشخصية.
إنه ظلي يا صاحب الظل الطويل الذي أستيقظ بعد ثمانية أعوام ليجدني، ربما يصح القول إنه لا يجدني مطلقاً، فحتى أنا لا أعرف إن كنت في عيد مولدي الثلاثين أجد نفسي على بداية الطريق أم أفتقده ككثير من السوريين.
الذي أريد أن أقوله لك إن هذه السنوات الثمانية التي مرت علي يمكن تجزأتها إلى مراحل على مبدأ الأرباع، فالربع الأول هو ربع الحزن، ربع الفقد والحصار والحرمان، سنتان وأكثر من الدموع والسواد وموت الآمال، لم يكن لي من أنيس إلا كتاب الله ووعده للصابرين.
أما الربع الثاني فهو ربع التربية والصناعة، هنا بدأت أتلمس بعض الحروف من دروس الثورة، وبدأت روحي تتلمس العبر وتصنع من أحلك الخيوط وُريقات نور، وبدا النصر قاب قوسين أو أدنى لا يحجزنا عنه إلا كلمة كن.
وأما الربع الثالث فهو ربع التيه، فيه بدأت انتكاسة الثورة، وبدأ البحث عن المنفذ، تزاحمته القرارات المصيرية وأمواج الحياة وتكاليفها، تجد في هذا الربع أمٌّ وأخت في خضم حرب شعواء على البشر والشجر من أعداء الإنسانية، إلا أنها تخوض غمار هذه البحار وترمي تابوت قدرها في لجج هذا الواقع المضطرب والمستقبل المجهول.
وأما الربع الأخير فهو حيث أنا الآن أكتب لك هذه الرسالة، إنه ربع العمل، سنتان من الجهود الحثيثة بغية شمعة تبدد الظلام، محاولات دؤوبة على ناصية الجدوى، ورباط لا يكل على عدة ثغور، أعمال تطوعية وتجارب نوعية، لقد كان حقًّا ربع حيازة المعنى وإدراك الهدف وتحقيق الذات رغم المطبات والهفوات.
عزيزي لقد قدَّمت ما مضى من عمري قبل الخامس عشر من آذار 2011 قربان حياة أولد من جديد لأعيشها، والأصح أنها حيوات كثيرة بألف لون وألف طعم وألف رائحة ما عشناه، لون الدماء ورائحة الجراح وصور الأشلاء، كل ذلك من أعطى للحياة معناها وكنهها واستحقاقها.
ما معنى حياة بمآقي لا تغزوها العبرات، وحناجر لا تصدح بلعنة الطغاة، وأيام لا تبذل على صرح الفكرة الخالدة؟! وما معنى وجود لا يستقي وجوده من الحق الخالد مهما ناء حاملوه وقصَّروا؟! ما معنى وجودنا يا عزيزي إن لم تُصان حرية الروح الأغلى عند الإله؟!
عزيزي يا صاحب الظل الطويل، لم تنتهِ الحرب بعد، لكنني أستطيع القول: إنني خرجت من المعارك السابقة مثخنة بالجراح لكن المهم أنني خرجت، والأهم أنني مازلت أكثر من ذي قبل متعطشة للحياة ومصرة على الاستمرار، وحيث يقبع ظلك على جدار المستحيل ترسم أظافري أو تحفر أظافري بمعنى أدق دروبًا من الصبر والإرادة والانتظار، وهنا على جدار الأيام أسرق صفحات لأدون فيها كل ما كان وما سيكون تاريخًا حقًّا لتضحياتنا وأوجاعنا ومهجنا المحترقة خالصًا لوجهه تعالى، وهذا الجهد وعلى الله التكلان.
أمَّا أنت فسأستمر في الكتابة لك وعنك.