حنان عقيل | أنا برس
منذ أن اندلعت الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، ورغم كل المصاعب والتحديات التي عانى منها الشعب السوري من حياة تفتقر لكل ما هو ضروري وأساسي لكرامة الإنسان واستقراره، ومع توالي المآسي والفواجع عامًا تلو الآخر، لم يُدفن الإبداع السوري تحت رُكام الحطام المُتعاظم، بل كان له من القوة والعزيمة ما جعله يُنفض أتربة الحرب والخراب عن ذاته ليكتب تجربته الخاصة الناجية من قذائف النيران وحُطام المُدن وجُثث الشعب الذي قام بثورةانقلبت إلى حرب قاتلة ومدمرة ومُشرِّدة.
كانت الأعمال الروائية بعد عام 2011 بمثابة الذاكرة الحيّة لما يدور على الأراضي السورية، فانبرت كثير من الكتابات الروائية إلى تسجيل وقائع ما يتم على الأراضي السورية من قتل وتدمير وتشريد، فظهرت كثير من الأعمال الروائية التصويرية ككاميرا تصوير تتابع وترصد وتتنقل من حدث لآخر لتكشف أبعاده، وغلب ذلك الجانب التوثيقي والتمثيلي على الأعمال في السنوات الأولى من قيام الثورة السورية، وتغيرّت زاوية التناول عامًا تلو الآخر وتبنت أعمال روائية أبعاد مغايرة لا تستند بشكل كامل لتوثيق الحدث.
باتت الرواية السورية رفيق الثورة السورية المغبونة، اللؤلؤة التي خرجت من رحم الدمار والخراب، الابنة الشرعية لثورة وأدت، تلك الابنة التي استطاعت أن تُثبت حضورها وأهميتها ووجودها الاستثنائي المؤثر رُغم هول مأساتها. ثماني سنوات هي عمر الثورة السورية المغدورة، وعمر أدب سوري ولد معها وعبّر بصدق عن معاناتها وإخفاقاتها وآمالها. (اقرأ/ي أيضاً: هكذا روت كاتبات سوريات المأساة على طريقتهن الخاصة).
يمكن القول إنه عام بعد الآخر كانت الموضوعات الروائية تتغير وتتبدل، وبشكل ما خفتت حدة الانفعالات اللحظية التي صاحبت الأعمال الأولى ليحل محلها رؤية أقرب إلى الرصانة تهدف للتعرف على الحدث في ضوء التاريخ السوري والمعطيات الراهنة وتشكلات المستقبل بعد أن حمل الواقع كل هذا الدمار، فتراجع البعد التوثيقي والتصويري ليحل محله البُعد التأملي بشكل ما، لاسيما بعد أن أحكم النظام السوري سيطرته على معظم الأراضي السورية وبدأت عودة اللاجئين من الخارج.
انفعال البدايات
“أول رواية عن الثورة السورية”.. هكذا نجحت رواية الكاتبة الكردية مها حسن في أن تنال الاعتراف بروايتها “طبول الحرب”، التي صدرت عام 2012، كعمل بارز كان له السبق في تناول مجريات الأحداث في سوريا أثناء الثورة، تروي حسن في روايتها مواقف النخبة السورية أثناء الاحتجاجات وحال المجتمع السوري في ظل الحرب الدائرة.
تعتمد حسن في روايتها على عناصر واقعية كأسماء المعتقلين والناشطين والمجازر، كما أنها أدرجت مقاطع من الصحف وبعض الأخبار التلفزيونية، والكتابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وانخرطت في التعبير عن هذا الحدث في عنفوان اشتعاله.
الرواية السورية رفيق الثورة السورية المغبونة.. اللؤلؤة التي خرجت من رحم الدمار والخراب، الابنة الشرعية لثورة يتم وأدها
لم يبتعد الروائي عبد الله مكسور في عمله الأول عن الثورة السورية “أيام في بابا عمرو” عن الحس التوثيقي لما يدور على الأراضي السورية في ظل الحرب، إذ دارت أحداث الرواية حول الهجمات العنيفة على “بابا عمرو” باستخدام الأسلحة الثقيلة، ترصد الرواية أحداثًا حقيقية يرويها بطل الرواية؛ الصحفي الشاب الذي عاد إلى بلده لإعداد أفلام وثائقية عن الاحتجاجات التي تشهدها البلاد.
يُكمل مكسور في عمله الثاني عن الثورة “عائد إلى حلب” تطورات السرد الدرامي للأحداث في بلاده، ومن خلال الصحفي، بطل الرواية الأولى، يكتب الروائي عن الاستبداد في سوريا وتجارب الاعتقال والتعذيب التي يمارسها الجيش ضد المعتقلين.
وفي حديث سابق له لصحيفة العرب بالتعاون مع “أنا برس”، يقول عبد الله مكسور عن أعماله التي تناولت الأحداث المشتعلة: “الكتابة عن مخاض عسير كالذي يحدث على أرض سوريا هي مثل انتظار المجهول بمعنى كأنك تقف في محطة قطار وكل راكب من أي اتجاه سيستهدفك لأنك لم تمض معه في رحلته، فكانــت المغامـــرة؛ فهناك من يطالب بانتظار اختمار الحدث ونضوجه للكتابة عنه، وهذا كلام كان سيصبح منطقيا لولا أن المأساة فاقت كل الحدود وسبقت كل التصورات فلا يمكن لأيّ أحد أن يتوقع حدوث كل ما حدث، فأي انتظار سيكون له معنى أمام هول الفاجعة التي لم تترك أحدا وشأنه..حتى من ارتبط مع سوريا بزيارة عابرة ولم تجمعه معها حالة ذاكرة مشتركة طويلة لم يستطع أن يمسك دموعه أمام كلمات طفل قال وهو ينازع البقاء صارخا “سأخبر الله بكل شيء” (نص الحديث)
في رواية “كان الرئيس صديقي” للكاتب السوري عدنان فرزات نجد حديثًا مباشرًا عن الأحداث في سورية، متوغلًا في عالم السجون والقمع، ويقول الكاتب عن روايته: “اخترت ضابطا ليروي الأحداث في رمز لحركة الانشقاقات الكبيرة التي حصلت أول الثورة بين الضباط والجنود وصحوة ضمير الكثيرين منهم، كما أنه هو الشاهد على تفاصيل وقعت داخل فروع الأمن”، كي لا تتحول الرواية إلى كتاب توثيقي أو تأريخي”.
أما عن رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة“، التي صدرت عام 2013، فلم تستند للشكل التوثيقي والانفعالات اللحظية بالأحداث الدائرة لكن الكاتب عمد إلى تفكيك آليات الخوف والتشرذم خلال نصف قرن، جاء في تقديمها: ” هي رواية عن مجتمع عاش بشكل متواز مع البطش والرغبات المقتولة، عبر سيرة عائلة اكتشفت أن كل أحلامها ماتت وتحولت إلى ركام كما تحولت جثة الأم إلى خردة يجب التخلص منها ليستمر الآخرون في العيش، رواية مكتوبة بحساسية صادمة ولغة رفيعة تأخذ بقرائها منذ الصفحات الأولى إلى أسئلة أساسية وتضعهم أمام حقائق خراب الحياة العربية في ظل الأنظمة التي استباحت حياتهم ودمرت أحلامهم، إنها رواية عن ورطة الحياة بأعمق معانيها، يعود فيها الروائي خالد خليفة بعد رائعته “مديح الكراهية” إلى الكتابة جهراً، ورطة الحياة في أعمق معانيها، ويكتب عن كل ما هو مسكوت عنه في حياتنا العربية والحياة السورية خصوصاً… هي رواية عن الأسى والخوف والموت الإنساني”.
حازت الرواية على جائزة نجيب محفوظ للأدب عام 2013، كما دخلت في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2014. وفي تعقيب له على مضامين الكتابة عن الثورة السورية التي اجتاحت الروايات السورية بعد الثورة قال خليفة في تصريح سابق له: “لقد أصبحنا مشكلة لذاتنا، لا نستطيع التفكير خارج ما حدث وسنبقى نكتب عنه لمئتي سنة قادمة كحدٍّ أدنى”. (المصدر)
في “قميص الليل” لسوسن حسن، الصادرة عام 2014 ترصد الكاتبة وقائع يوم كامل في مدينة اللاذقية، تتابع ملامح الترقب والقلق السائدة في المجتمع السوري، والقلق المجاني الذي غزا كل منزل، لا تقتصر الرواية على الحديث عن اللحظة السورية المشتعلة وإنما ترجع الكاتبة إلى الماضي لتسرد أجواء الخوف التي عانى منها هذا الشعب في ظل سُلطة مستبدة.
وفي عام 2014 أيضًا، أصدرت الروائية السورية ابتسام تريسي رواية “مدن اليمام” التي جاء في تقديمها: ” رواية قمع بامتياز. موضوعها المقاومة السورية لحكم بشار الأسد، وتصل الرواية بين زمن القمع في عهد والده وفي عهد بشار نفسه الذي لم تختلف سياساته الدامية في قمع شعبه عن سياسة أبيه، فالقتل موجود زالوحشية تتصاعد، والتعذيب الجهنمي للمظلومين في المعتقلات لايختلف عن صور الوحشية الدامية الواقعة على أحرار شعب يحلمون بوطن لاطائفية فيه ولا شبيحة ، والفشل في الحب هو النتيجة الحتمية لزمن قمعي لامجال لليمام فيه، بكل مايرمز إليه من عوالم الحب والحنان والرقة. لكن وسط هذا الكابوس تبدو روح المقاومة التي لم تتوقف إلا بالخلاص من الطائفية والتعصب الديني والشبيحة، وعندئذ، قد يعود اليمام إلينا آتياً واعداً بعالم لايشبه هذا العالم الذي تعيشه سوريا الشقيقة”.
وتقول تريسي في تصريح سابق لها مع صحيفة العرب بالتعاون مع “أنا برس” حول الكتابة عن الثورة: “لكلّ كاتب وجهة نظر في طبيعة العمل الروائي، البعض يرى أن الدم في سوريا يطغى، وأنّ الكتابة تهاوت إلى القاع، ولا يمكنها أن توصّف الحدث أو تحتويه على أقل تقدير، لذا لا يجرؤون على خوض غمار كتابة روائية، تتحدّث عن ذاك الكم من الدمار الذي شوّه البشر قبل المدن، لكن بالنسبة لي عشت الحدث، وكنت داخله، ولم أنظر إليه نظرة روائي أو رسام أو محلل سياسي. أنا والحدث انصهرنا معا، وحملتنا ريح الثورة فرمتنا في بوتقة النار، نار أحرقت كل شيء، وأخذت معها كل جميل في حياتنا”.
عام بعد الآخر كانت الموضوعات الروائية تتغير وتتبدل، وبشكل ما خفتت حدة الانفعالات اللحظية التي صاحبت الأعمال الأولى ليحل محلها رؤية أقرب إلى الرصانة
أما الروائي السوري نبيل سليمان فقد أصدر في العام ذاته رواية “جداريات الشام- نمنوما”، التي يتحدث فيها عن السنة الأولى من الثورة السورية، والتي انتهت بهزيمة “السلمية” وانتصار “العسكرة” التي كان النظام قد بدأها منذ الأيام الأولى.
وفي حوار سابق له، قال سليمان عن أدب الثورة: “الزلزال – أو الثورة أو الانتفاضة أو الحرب… سمِّ ما تشاء – ترك أثراً عميقاً وعاجلاً في الإبداعات في سوريا. وإذا كنت سأدع الكتابات الموالية جانباً فلأن ما اطلعت عليه منها متواضع. وهذا لا يعني أن الكتابة الإبداعية المعارضة سامقة، فالكثير منها متواضع، لأن أثر الزلزال تباين وتعدد، فلهثت فصائد وروايات كثيرة خلف الحدث، ونافست البيان السياسي، وطغا السياسي على الجمالي، واحتارت الرواية أو القصيدة أو الأغنية أكثر من اللوحة بين أن تؤدي مهمة قتالية أو تكون كاميرا “ديجتال” وأحياناً “زينيت” أو أن تكون ثأراً من العدو”. (المصدر)
واتباعًا للنهج التوثيقي، كتبت الروائية سمر يزبك “تقاطع نيران: من يوميات الانتفاضة السورية” وفيها سجّلت يزبك يومياتها كمثقفة تعيش الصراع في سوريا منذ بدايته. تقول الكاتبة في تقديم يومياتها: “هذه اليوميات ليست توثيقاً مباشراً للشهور الأربعة الأولى في الانتفاضة السورية، إنها مجرّد أوراق استعنْتُ بها في أيّامي على مواجهة الخوف والذعر، وكذلك مراودة الأمل، لكنها كتابة حقيقية، واقعّية، ولا تمت للخيال بصلة’. الخوف من الاعتقال، الخوف من القتل، الخوف على ابنتها الصغيرة، الخوف من كل ما يجري في سوريا، والذي لم يدخل أقبية المخابرات لن يعرف معنى هذا الخوف الحقيقي، خوف بطعم الألم ومرارة العجز، في تلك الأقبية الموبوءة برائحة الموت وصوت الجلادين، وفي الحالة العيانية لسمر يزبك، يكون الاتهام بالخيانة والعمالة والتعهير وأشياء أخرى كثيرة بانتظارها، تتحدث عن تفاصيل اعتقالها في أول مرة، ونظرة الضابط الكبير وكأنها ‘حشرة مفعوسة’، ثم صفعة قوية تلقيها أرضاً مع بصقة عليها وشتيمة ‘يا جربانة لينتهي المشهد بقوله ‘أنتِ عار على العلويين”.
سيرة الاستبداد
في عام 2015، بدأ التوجه نحو عمق النظرة والتمعن والتأمل في مآلات الأمور وأسبابها العميقة والجذرية التي ترجع لعقود من التاريخ. في روايتها “لمار” الصادرة خلال العام المذكور، انطلقت الكاتبة السورية ابتسام تريسي إلى التاريخ لرصد أسباب تغول المأساة السورية، الرواية كما جاء في تقديمها: “سيرة ذاتية للاستبداد، ومتابعة دقيقة لمراحل تشكله وتكونه، ورصد ذكى لخفاياه النفسية والبيئية والحياتية، قدمتها الكاتبة ببراعة وصدق قاسيين، حيث عرت الحقيقة فبدت كمأساة نحياها ولكن لاندرك كنهها الا فى نهاية الطريق، لكن الكاتبة ادركتها ووعتها، ثم صبتها فى قالب روائى شيق، يؤرخ لمسيرة الاستبداد، ويرصد مسالك الفساد، من خلال شخصيات تبعث فيها الكاتبة الروح على الورق، بعد ان تمنحها اللحم والدم بمداد روحها المبدعة“.
في رواية “عين الشرق” الصادرة عام 2016 يستنطق الروائي والشاعر السوري إبراهيم الجبين التاريخ، ويجعله مرآة للواقع الراهن في “دمشق”، يقول الجبين في حوار سابق له عن روايات الثورة: لطالما كنت أتهيب مساس الكتابة الأدبية أمام الحدث السوري. في السطور الأولى من “عين الشرق” كنت أسأل؛ هل يليق بما يجري أن نكتب عنه بالآليات ذاتها التي كنا نستعملها قبل أن يحدث ما حدث؟ أعتقد أن كثيرين لم يعن لهم هذا الجانب شيئاً، وواصلوا على يقين مما لديهم من استعدادات. حتى بدا الأمر وكأن شيئاً لم يتغير. سوى أن الموضوع صار عن كارثة تقع على كوكب آخر اسمه سوريا. أو كما فعل البعض بضخ التأوهات والندب في متون الأعمال. (المزيد من التفاصيل: أسقط أقنعة النخب المزيفة في “عين الشرق”.. إبراهيم الجبين: الكتابة الآن لا تليق إلا عن دمشق).
وفي رواية “اختبار الندم” للكاتب السوري خليل صويلح، والتي فازت بجائزة الشيخ زايد، فرع الآداب 2018، مرآة عاكسة للواقع السوري خلال سنوات الحرب من خلال عدد من الشخصيات، التي ترتبط بالراوي وتكشف الجوانب الاجتماعية وتأثير الحرب على الشخصيات والألم الذي لم ينجُ منه أي سوري.
جاء في تقديم الرواية: “في الحروب تتشابه الأيّام. يصبح وجودك مصادفة أخطأتها رصاصة. يصبح كلّ يوم يوماً إضافيّاً تعيشه في الوقت الضائع. تنسى أن تنظر في المرآة. تبحث عن وجهك في وجوه الآخرين. تدفن وحدتك في المقهى، في القصص العابرة، في الأحاديث الافتراضية التي تجد طريقها بين وجهَين باكيَين من وجوه «الإيموجيز» على محمولك. الشِّعر يصبح حجّة للتعلّق بفعل الحياة. الحبّ. المغازلة. المواعيد. كلّها تصبح أسلحة لمكافحة القذائف التي إن لم تطَلْك طالت جوهر إحساسك بالوجود. في الحرب تصل الأحاسيس إلى منتهاها. تتجرّد الحياة من مساحيق المهرّج وتبدو عارية على حقيقتها، قاسية على حقيقتها، مروّعة على حقيقتها. وتطفو القصص المدمّاة على السطح. “اختبار الندم” تحكي قصّة كاتب بارعٍ في تفويت الفرص، موهوب في بعثرة الكآبة، يعيش محتمياً في فقّاعة هشّة، محاولاً ترويض شياطينه.
وفي “عمت صباحًا أيتها الحرب” تعود الروائية السورية مها حسن إلى الحديث عن ما خلّفته الحرب السورية من دمار وشتات، تشرع في تشريح مآلات الثورة والفساد الذي قضى على كل شيء، تكشف أوضاع اللجوء والنزوح إبان الحرب السورية.
وجاء في تقديم الرواية: “لا شيء يمكنه أن يعوض عن خسارات الحروب، ولا منديلَ، مهما كان أبيض ونظيفاً ومقدساً، يمكنه أن يكفكف دمعنا على الذين قتلتهم الحرب. وأكثر ما سيؤلم في المستقبل حين نجلس ونستذكر سنوات الحرب، سيبدو أن كل شيء حدث بساعة واحدة من الزمن، على الأكثر، وانتهى. الرواية فقط ستنجو من هذه الممارسة اللا أخلاقية التي قد ترتكبها جميع الفنون الأخرى. لأنها الوحيدة القادرة على انتاج الشعور بزمن الحرب الطويل، الحرب بكل لحظاتها المظلمة، ورائحة جلدها الذي يتصبب رصاصاً وخوف. نعم الرواية فقط ستنجو وخاصة حين تأتينا من روائية متمرسة وصاحبة دربة طويلة“.
وفي رواية “المشاءة” لسمر يزبك الصادرة عام 2017، تقرن الكاتبة الثورة ومآلاتها بحياة طفلة، تُروى حكايات الحرب على لسان الطفلة وتتجسد في حياتها وطفولتها المُشوّهة تحت وقع تشويه كامل للإنسانية وللحقوق الأساسية.
في كتابها الأول عن الثورة “تقاطع نيران” كانت يزبك تسعى لأرشفة تجارب الثورة وشهادات الناشطين في الشهور الأولى، وفي كتابها “الدخول إلى بوابات العدم” رصدت الكاتبة تحولات الثورة وسرقة أحلام الثورار والنشطاء، لكنّها في “المشاءة” عمدت إلى التخييل بصورة أكبر في تناولها لواقع الثورة السورية بعد سنوات ومآلاتها المأسوية التي كان الفقد والخوف علامات بارزة فيها.
مآسي اللجوء
غلبت قضية اللجوء والشتات على الأعمال الروائية الصادرة خلال عام 2018، تزامنًا مع التطورات السياسية والميدانية التي شهدتها سوريا خلال هذا العام؛ إذ أحكم النظام سيطرته على دمشق ومحيطها فضلًا عن الجنوب السوري، وبقيت قضية اللجوء ومآسي اللاجئين في صدارة المشهد بعد ما خفتت حدة الحرب على الأراضي السورية.
في رواية “الطريق إلى الزعتري” يسرد الكاتب السوري محمد فتحي المقداد قسوة ظروف اللجوء إلى مخيم الزعتري في الأردن، ويدين الكاتب في روايته ما يحدث في بلاده منذ الثورة السورية من اعتقال للمعارضين وكبح الحريات، كما أنه يطالب في روايته بالإفراج عن المعتقلين في سجون النظام وتوضيح مصيرهم.
جاء في تقديم الرواية: “لا أدري على وجه التحديد، هل سيكون لكلماتي هذه الحظ الكافي لأن تكون الشاهد على البداية، وهل سيكون لها شرف كتابة فصول النهاية. صراع الاحتراق في داخلي يجعلني أتخوف على كل حرف ومن كل حرف أن يسرق من سياقه، ليوظف في طريق مغاير، غير موضعه المراد له، وأخاف منه الانحراف عن مساره في تقييد لحظة الحقيقة بصدق”.
“أعياد الشتاء” للكاتبة السورية نغم حيدر، رواية صدرت عن عن دار “هاشيت نوفل” في بيروت، تلاصد فيها الكاتبة حياة فتاتين جمعتهما غرفة ضيقة في واحدة من بلدان اللجوء، لتتعرض من خلال هذا السرد لأجواء الحرب واللجوء السوري إبان الثورة السورية.
جاء في تقديم الرواية: “ثمّة جانب إيجابي واحد للرحيل. الانسلاخ قد يكون مجدياً، رغم الندوب المعشّشة في الروح. ففي الرحيل نصبح آخرين. نرتدي جلد من كنّا نحلم أن نكونه، أو من يوفّر علينا الأسئلة الموجعة عمّن كنّاه هناك“.
وتقول الكاتبة في تصريحات لوكالة “رويترز”: “لم أتوقع أن يربكني تغيير المكان إلى هذا الحد، يتعلق الأمر بما تركهُ المرء خلفه، إذ أننا غادرنا تاركين حطاما، دمارا مهولا كأنه قيامة،شعرت أن حياتي السابقة جزء من هذا الدمار، تلك السنوات كأنها خدعة، حياة سابقة كأنها محض أوهام، أصبحت كل الذكريات والصور التي تتواتر على ذهني تشبه ما آلت إليه بعدها، خراب كبير“.
أما الروائية السورية منهل السراج، فقد صدر لها رواية “صُراح”، وهي رواية عن الشتات وواقع الحرب السورية، وجاء في تصدير الرواية: “صراح مهاجرة في السويد، منذ بدء الحرب في بلدها تعذّرت الكتابة لديها، تسعى للقبض على المفتاح لحرية التعبير، لكن الأقفال تواجهها، تعمل مع طفل متوحد، والده جبران يعمل في مكتبةـ ويحارب التمييز، لكنه ما زال يجد نفسه في أقبية معتمة. في هذه الرواية تقص علينا منهل السراج بأسلوب مختلف في السرد والكتابة، حكاية مهاجرين سوريين في السوبد، وظروفهم، وتشتت علاقاتهم، وتنثر بهدوء تاملات في الوجود والحياة والثقة والحب والسلام“.
تقول السراج عن كتابتها لهذه الرواية في حوار سابق لها: “مفهوم الكتابة الجمالية بالسجية يتناقض مع سلوك الحرب، ولكني فعلت وكتبت ضمن هذا المجال الخارق للأسلوب الكتابي المسيطر، كنت أقارب استطاعة المحارب وأشبهها باستطاعة الكاتب الروائي. تقصّدت في بعض المقاطع أن أكتب بسخرية من كل شيء، ومرات بسخرية من القواعد كلها بما فيها مخاطر الحروب والصراعات، كنت أنظر وأتابع وأسجل ربما أكثر مما أخلق أو أبدع، أو من الممكن أن يكون الخلق والإبداع ينتشران حولي مكانيا بصورة أكثر ترتيبا مما هو عليه في الصفحة المكتوبة“.
وفي رواية “كائنات الخراب” للكاتب محمد قبلان رضوان ، رصد لمآلات الاستبداد والفساد في سوريا على المجتمع السوري، وجاء في تقديمها: “كائنات الخراب في بلاد ما زالت تولد كل لحظة وتحاول أن تلتقط أنفاس الحياة.. كائنات الخراب التي صارت تمشي في النور وتركت الظل للقابعين في الزنازين الحاملة بحلمهم.. الرواية تحمل الكثير من العوالم وتأخذ حكايتها أبعاداً تفرض علينا البحث فيها و السعي لإيجاد حلول لها”.
أما الروائي السوري ممدوح عزام، في روايته “أرواح صخرات العسل” الصادرة عن “دار سرد، ودار ممدوح عدوان للنشر” فيسرد من خلال ثلاث شخصيات رئيسية تستعاد حياتهم صورة عن الحياة الاجتماعية للفرد السوري وتأثير الحرب عليهم في شبابهم.
مأساة
ختامًا، يُمكن القول إن المأساة السورية على امتداد الأعوام الماضية كانت مُفرّخة لأعمال إبداعية هامة ستظل علامة في تاريخ الأدب السوري بعد عقود، وخير شاهد على تلك الحرب التي عانى منها السوريون طيلة سنوات بعد أن أُجهضت أحلام ثورتهم لتصير حُطامًا بل ليصيروا هم أيضًا حُطامًا وأُكلًا سائغًا في رحلات الموت والشتات.
ليس هناك معيار أوحد يُمكن أن نُفعّله على الأعمال الروائية كافة التي صدرت خلال السنوات الماضية للمأساة، فلا بُعد الزمن وحده كفيل بأن يصنع نُضجًا في كل الكتابات ولا قُربه يعني أنها غير ناضجة، وليست التوثيقية أو التقريرية التي وسمت كثير من أعمال تلك المرحلة بسُبّة، كما أن التخييل ليس ميزة محمودة كمُقابل صريح ومُباشر لها؛ فالأمر يعتمد في النهاية على خصائص كل عمل بمفرده وقدرته على أن يصنع من الانفعال والحزن عملًا روائيًا ناضجًا لا يلغي المأساة لكنه في المقابل لا يُهمل الصنعة الروائية لصالح الانفعالات اللحظية.