د .سامي محمود إبراهيم |كلية الآداب جامعة الموصل العراق
لقد تمَّ عزلنا عن الواقع، فلم نعد نشعر بأننا نحيا في حضارة القرن الواحد والعشرين. ولذلك نجد المناخ النفسي لمجتمعاتنا مناخًا متصلبًا يسوده الشعور بعدم الرضا. فنحن في أبسط حقوقنا مسيرون تربينا على النظرية الجاهزة ولم نعد نمتلك أي حسّ نقدي.
إنسانيتنا مهدورة من قبل الطاغية المتسلط أو الدولة المستبدة، وهذا كله تُحركه الخلفية المعرفية للغرب بكافة أبعادها السلطوية وتُغذيها النزعة الأمريكية العابرة للقارات، والعابرة للنجوم والأفلاك. تم عزلنا عن كافة أبعادنا الوجودية، وهكذا نتيجة الشعور باليأس، فخضعت حياتنا للمصادفة، وانتفى لدينا الشعور بالمسؤولية وضمان المستقبل، وانهار الشعور بالأمن في زمن سطوة مجلس الأمن. كل هذا أدى إلى انهيار المستقبل ذلك البعد الإنساني المهم على الصعيدين الحضاري والعقائدي.
انهار البعد الإنساني لحظة استشراف المستقبل، وأصبحنا نحكم الاحتمال والظن، وهذا المستقبل قد يأتي وقد لا يأتي، ولذلك لا يبقى لترقبه أي قيمة أو دافع فنبدأ بالغوص في الحاضر، وبذلك يتحجر عندنا الماضي ويتضخم وينغلق على ذاته ويصبح حاضرًا دائمًا، ومن ثم يتحجر الإنسان ذاته مع لحظة الحاضر المتحجر، ويصبح الإنسان ذلك الماضي إلى أن تقوم الساعة.
وهو بهذا يشبه الميت الذي تصير ماهيته عين ماضيه، لهذا السبب نذكر ماضينا وآباءنا أكثر من لحظة الحاضر، فنعيش دائمًا في لحظة الماضي بكل أبعاده من فكر وقيمة وعقيدة وسياق وحدث.
وهذا ما يفسر عداواتنا وحروبنا الطائفية والقبلية والقومية، هذا بالإضافة إلى أن الانهماك في الحاضر واللحظة الحاضرة يؤدي كذلك إلى طلب اللذة والمنفعة الآنيتين، فنبقى نعيش ببعد واحد، وما يهلكنا إلا الدهر، بسبب ذلك انقطع التواصل الحقيقي والحوار الاجتماعي والسياسي والديني، وتم عزل الفرد في ظلمات الحذر وبحار الظنون والخوف من المستقبل السياسي المجهول، فانحدرت علاقة الإنسان بأخيه الإنسان إلى مستوى الشيئية، فحل الظلم بدل العدل، والكره بدل الحب، والكذب بدل الصدق، وبذلك تتهاوى الإنسانية إلى أحط المستويات وأدناها إلى بركماتية نفعية تحقق ذاتها بوسائل الغاية والتبرير.
في عصر الأمركة زيف الإنسان بأبشع الوسائل والحيل الناعمة تمامًا كالتي نجدها في سينما هوليوود، فيخيل إليك أنك أمام إنسان، وأنت في الواقع أمام جدار مُظلم وأصم. إننا لم نحيا عصر النهضة أو التنوير أو الحداثة أو التكنولوجيا المعاصرة أو الذرة أو النانو أو الكوارك، في حقيقة الأمر نحن لم نتجاوز العصر الوسيط، بهذا العمل نحن نزيف الواقع في سبيل عدم مواجهة الحقيقة المتمثلة في أننا لا نعيش لحظة العصر الواحد والعشرين، وبذلك نرتمي في ما يسمى بالجهل السعيد، هكذا تنتصر اللحظة الأمريكية وأيديولوجياتها الضالة، فنحن لم نتجاوز زمن العصور الوسطى إلا في المظهر، في سياق الزمن الحضاري، في استخدامنا لمنتجات غيرنا بما في ذلك أقلام الرصاص، ولو تم رفع هذه الوسائل والمعدات والتقنيات المعاصرة لأنكرنا الزمن ذاته، ولثبت عقائديًّا أننا لا نستحق العيش فيه.
أما منظومة قيمنا فمعطاة على غرار دون كيشوت، محمولة على ظهر جواد هزيل لكنه مهجن عربيًّا كما هُجن سندبادنا، فهو منذ أن اكتشف ذاته يسير في تلك الصحراء الميتة الجافة التي لا تحيا فيها إلا العصبية القبلية والتقاليد البالية وقساوة القلب. فمنذ عصر صحرائنا الأول تم وأد قيم المروءة والإيثار وبقيت موؤدة إلى يومنا هذا.
بهذا المعنى كان تاريخنا أشبه بمسيرة جنائزية تحجب عن عيوننا رؤية المستقبل والمصير المشترك، ورغم ضجيج الحضارة لا نصحو ولا نفيق، والحضارة تمنُّ علينا وتظن، فلم نعد تلك الأمة الحية القوية، وهناك جدران شديدة تحول بيننا وبين النهضة، وعملاق سندبادنا قابع في دلة الصحراء.