علاء العلي |
بعد تفتيت حوض المتوسّط لدويلات متناثرة إبَّان حقبة الاستعمار الغربيّ لبلاد العرب، نصّبت هذه الدّول من ينوبها في استمرار تحقيق النّفوذ الناعم الذي أتى على كل شيء، فما احتوته الأرض وما نزل من السّماء مآله إلى شعوب تلك الدول، وترك الفتات لشعوب هذه الدول، بل وتعدّاها لتقديم عربون المصلحة للمتنفّذين بسلطات واسعة متجاوزة كلّ قانون آدمي يحكم به بنو البشر.
ليست بلدان حوض المتوسط بأرضها اليابسة هي المرحلة الأولى ولا الأخيرة، فقد بدأت هذه الدّول ومن ينوبها بالتّوغّل ورسم حدود الدول السّياسية الإقليمية نحو تجزئة مياه المتوسط، التي باتت تكشف أحدث الدّراسات الطبوغرافية عن احتياطيات هائلة من الغاز والنّفط تحت هذه المياه، الأمر الذي ألقى بظلاله على أجندات الدول ذات الشراهة العالية لمصادر الطاقة، عينٌ فيها على تثبيت ذلك الحاكم الذي يحقق ديمومة المكاسب التاريخية وعينٌ على مصادر الطّاقة.
ولأن المتوسط بدويلاته الشرق أوسطية والحوض الجنوبي منه على صفيح ساخن، فكان لزاماً على الدول المتصدرة لإدارة الحروب فيه أن تعلنها سراً وعلناً، تحت مسميات حكومات شرعية، تعمل معها لترسيم وتقاسم هذه الثروات.
ولعلّ ما يشهده الخلاف الروسي التركي في الفترة الأخيرة خير مثال على ذلك، فبعد تقاسم المياه الإقليمية والاستنجاد بالأتراك من حكومة السّراج المعترف عليها أممياً، يبدو أن تركيّا قد حازت بذلك على حصة الأسد منها، الأمر الذي دفع منافستها النّدية روسيا على البدء بأجندات ما برحت تكرر اتهام تركيا بتنفيذها تحت غطاء دعم جماعات غير شرعيّة.
لا يخفى على أحد أن عودة الروس نحو المياه الدافئة لربما يشكل الخطر الأعظم على دول الناتو من حيث نشر منظومات الدفاع الصاروخية وهو ما يعني إحاطة للناتو من الجنوب، وكذلك تمويل هذا الانتشار من مكاسب الاقتصاد الهائلة التي سيجنيها الروس من إعادة دعم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر المدعوم من بعض دول الخليج ومصر.
لعل المحاور المتشكلة في حوض المتوسط التي تغذيها إسرائيل وتحرض على مجابهة النفوذ التركية بعد اتفاقية المياه الإقليمية في المتوسط قد فاقمت الأزمة بحدة، ولعل الضغط الروسي على إدلب السورية التي تتنافر فيه مصالحهم بوضوح مع الأتراك بحدة، مؤشر للاستدلال على حجم الضغط الإسرائيلي على الروس لإجبار الأتراك على التنازل في المتوسط.
التوغل الروسي المعلن عبر مئات المرتزقة لإفشال مشروع التمدد التركي في حوض المتوسط إلى جانب التصعيد السياسي والعسكري في ليبيا وعبر الضغط على حفتر وميليشياته المناوئة لحكومة السراج لعرقلة أي مساع لحلحلة عادلة للقضية الليبية عبر انسحاباته المتوالية من اجتماعات ومساعي الدول، يشي بأمر واحد أن دعماً غير محدود قد وضع للوكلاء للوصول إلى هذه الثروات وبكافة الطرق الشرعية وغيرها.
هذا الواقع بكل تعقيداته يُواجه بسياسة تركية معاندة لأي تحد في أي حقّ مشروع لهذا البلد، ما ينذر بحالة حرب باردة ملامحها الاقتصادية بانت من خلال تململ الحوت الأمريكي الذي بات يقود الخلاف من الخلف، وينتظر بلهفة لحظة التصادم السياسي والاقتصادي، ولربما في قادم الأيام تتطور لاستخدام القوة العسكرية التي ما تزال خياراً مجمداً ومؤجلاً لدى كافة الدول الفاعلة باستثناء الوكلاء الذين لم يتوقفوا برهة عن الاقتتال الدموي كنوع من رسائل حمراء متبادلة.
وبالرغم من كل هذه التضحيات التي تقدمها الشعوب إلا أنها تبقى ضمن بوتقة هدف كل طرف، فما تزال الشعوب ترزح تحت نير الفقر رغم كل الثروات، إلا أن حكام هذه البلدان جعلوا من التنمية لشعوبها أهدافا ثانوية هامشية إن وجدت أصلاً.
أحداث ساخنة قادمة ستنبئ بحرارة المنطقة الدافئة أصلاً دون تسخين العسكر، ولعل دخول الدول الأخرى سينتج تفاهمات على مياه المتوسط، بسايكس بيكو بحري هذه المرة يرسخ اتفاق اليابسة، وبل ويتعداه إلى يمزق المتوسط بشكل أفظع، مخلفًا آثاراً تدميريّة جديدة على شعوبه التي لا حول لها ولا قوة سوى أنها ساحة حرب حيّة، تُقام عليها البازارات الاقتصادية والسياسية والعسكرية حتى، فضلاً عن انتهائها بشرائح مجتمعية ممزقة الهوية والولاء.
1 تعليق
Ziead
بالتوفيق استاذي العزيز