تمَّ الحديث منذ أيام قليلة عن (العدالة التصالحية) بصفتها مصطلح تمّ تداوله في مشاورات اللجنة الدستورية كما جاء في إحاطة (بيدرسون) الأخيرة، وسواء وردَ في مداخلات الأعضاء أم لم يرد يبدو أن المصطلح سيدخل السياق التفاوضي، فما هي العدالة التصالحية، وأين سوف تضع المفاوضات بشكل عام في المراحل القادمة؟
العدالة التصالحية ببساطة مصطلح يعني لا غالب ولا مغلوب، ويُستخدَم في التفاهمات التي تجري عقب الحروب الأهلية، حيث من الصعوبة أن يُدان أحد الأطراف، فلذلك يتم المصالحة بينها على مبدأ (جبر الضرر وفق المتاح) وبالحدّ الأدنى للجميع، وهو شيء شبيه باتفاق الطائف بعد الحرب الأهلية اللبنانية، حيث يتم تقاسم السلطات وفق النفوذ والقوة ويتم إرضاء النخب لإيقاف الاقتتال.
في التاريخ تشبه العدالة التصالحية في أبهى صورها ما جرى بعد حرب (داحس والغبراء)، حيث توقفت الحرب وتم دفع ديات القتلى بين الطرفين من قبل طرف ثالث ثمّ عُقد الصلح، وفي مواقف مشابهة لا تدفع ديّات جميع القتلى، وإنما يحصى القتلى من جميع الأطراف وتتم المقاصصة، ثم يتم تعويض صاحب العدد الأكبر من القتلى ليتوقف عن الأخذ بالثأر.
كل هذه الأمثلة يمكن أن تشبه العدالة التصالحية، وجميعها ربما لا يشبه ما تمرُّ به بلادنا، حيث إن الحرب الدائرة هي ثورة على مستبد أمعن في قتل الناس، وإن الفريقين أحدهما القاتل والآخر هو الضحية، فالعدالة التصالحية تعني هنا أن يتخلى الضحية عن حقوقه ويرضى بالقليل، مقابل أن يتوقف المُستبد عن القتل، وهي بالتالي تعيد توصيف ما يجري في البلاد على أنه حرب أهلية خالصة، أو تنازع على السلطة ليس لأحد الأطراف فيها حقّ على حساب الآخر.
بشكل عام يجري طريق المفاوضات بشكل طبيعي لأماكن كهذه، فلا يمكن أن أتفاوض مع طرف بشرط رحيله، ولو كنت أقدِر على رحيله لما احتجت للتفاوض، وهنا لا أحاول أن أقول إن بقاء الأسد شرط للتفاوض، لكن على الأقل لا يمكن أن يكون رحيله شرطًا أساسيًا، ومن يمشي في طريق المفاوضات سيصل بشكل عام إلى مساحة لا غالب فيها ولا مغلوب، وبالتالي سيصل إلى مصلحات كثيرة كالعدالة التصالحية وغيرها، وإلَّا فعلينا أن نستمر في المقاومة!! ولا أعتقد أنها ممكنة إذا قرر الحلفاء إيقافها؛ لأنك وقتها ستخسر الحرب والمفاوضات معًا.
المساحة السياسية بدأت تضيق علينا كالأرض التي نقف عليها، وإن لم نحاول أن نحقق أي تقدم في المفاوضات، فهذا يعني أن لا حلًّا سياسيًا في الأفق، والأمور ستذهب في أحسن الأحوال بالنسبة إلينا إلى تقاسم مناطق النفوذ بين الدول المتصارعة.
بقي أمر واحد لا بدّ من الإشارة إليه وهو أن المفاوضات تجري بين دول النفوذ، والسوريون فيها أحجار شطرنج لا يتحركون من تلقاء أنفسهم إلا في القضايا اللغوية والمصطلحية الشائكة، أو في بعض السجالات والخطابات لتسجيل النقاط لا لتحريك القضايا، والسلام ..
المدير العام | أحمد وديع العبسي