الروائح وارتباطها بالذاكرة
للروائح مكانة خاصة في حياة البشر، منها يرتبط بذاكرتنا الزمانية أو المكانية ويثير المتعة والسعادة في نفوسنا، وأخرى تسبب لنا الاشمئزاز والقرف، والفرق بينهما كالفرق بين رائحة الحياة والموت، فعلى سبيل المثال بعضنا يعشق رائحة القهوة والكتب والتراب بعد المطر ورائحة البحر و صابون الغار والزعتر، أو ربَّما رائحة طفل رضيع، فكلها روائح تنعش أنفاسنا وتربطنا بذكريات معينة، لكن لعلنا لا ندرك أنّ حاسة الشم لا تقل أهمية عن السمع والبصر، فنبي الله يعقوب عليه السلام استرد بصره عندما ألقى أولاده عليه قميص ابنه يوسف ، قال تعالى على لسان يعقوب: “إني لأجد ريح يوسف”.
تعتبر العطور والروائح الطيبة مفتاحًا لراحة القلب وطمأنينته، لذلك نختار من قوارير العطر ما يناسب مزاجنا وميولنا، فلشذاها القدرة على الإقناع والتغلغل في أذهاننا كما الهواء في رئتينا، فالعطر شيء لا يمكن التعبير عن وجوده لكننا ندركه ونحسه.
أنواع العطور وارتباطها بالشخصيات
“مالك محصي” بائع عطور من مدينة إدلب مولعٌ بوصف الروائح العطرة واختيارها حسب الأوقات والفصول والمناسبات، لدرجة أنَّه بات يميز الشخصيات من الروائح التي يختارونها، حيث يرتبط نوع العطر بثقافة الأشخاص وخبرتهم بروائحها حسب ما قال في لقاء لحبر معه.
وأضاف محصي: “للعطور أنواع كعطر المسك والعود والعنبر وعطور الأزهار، بعضها بأسعار مرتفعة يصل سعر الغرام الواحد من ماء الورد الدمشقي إلى سعر غرام من الذهب، وتصنَّف وتباع حسب كمية الزيت العطري فيه، إضافة للمثبتات والكحول التي يتم استيرادها من دمشق وحلب وطرطوس.
- العطر: يحتوي على أعلى نسبة من زيت العطر عادة تتراوح ما بين 20 إلى 25% تستمر رائحته لفترة 12ساعة تقريباً.
- ماء العطر: يحتوي على 15 إلى 18% من زيت العطر.
- ماء التواليت أقل تكلفة وتركيزا، نسبة زيت العطر فيه من 4 إلى 10%.
- الكولونيا والزيوت الأساسية والعطر الصلب.
وتوصف الروائح بالنفَّاذة القوية التي ترتكز في تركيبها على رائحة الأخشاب كالصندل، وأخرى ناعمة ورومانسية من الأزهار والورود.
أفضل الأماكن لوضع العطور، العنق والرقبة وخلف الأذن والمعصم، ويفضل أن نحافظ عليها في الظلام بعيداً عن الحرارة بعد تعبئتها مباشرة.”
إقبال جيد على الشراء في الأسواق
تلقى تجارة العطور في الشمال السوري إقبالًا واسعًا خاصة في أسواق مدينة إدلب التي باتت مؤخرا من المدن المزدحمة بالسكان بعد تهجير النظام الكثير من المدنيين إليها، فلا يكاد يخلو بيت من قارورة عطر حتى ولو كانت بحجم صغير.
في أحد المحلات بمدينة إدلب أثارت دهشة الزبائن امرأة جربت أكثر من 5 أنواع من العطر الرجالي وعند سؤال “حبر” لها عن اسم العطر أجابت:
” ابحث عن رائحة عطر رجالي أجهل اسمه، لكن رائحته مازالت عالقة بمخيلتي منذ طفولتي، إنَّها رائحة عطر والدي رحمه الله”.
في المقابل ابتاعت زبونة أخرى عطراً مركباً من نوعين تحفظ اسمهما وكميتهما بدت ذا خبرة جيدة بها.
بدوره أشار “مصطفى حديثي” تاجر عطور من إدلب أنَّ لكلِّ إنسان رائحة خاصة تصدر عن جلده وشعره، وعند رشِّ العطر تمتزج رائحة الجسم مع العطر المستخدم ممَّا يسبب اختلافاً لذات الرائحة من شخص لآخر، فالبشرة الدهنية هي الأقدر على الاحتفاظ برائحة العطور لمدة أطول أكثر من الجافة والمختلطة، مشيرًا إلى أنَّ معظم (الزيوت العطرية) نباتية وتُستخلص من الورود والأخشاب والبهارات والفواكه والأعشاب العطرة، إضافة لبعض الخضار وأخرى حيوانية كالمسك والعنبر، لكن ما يُباع في أسواق إدلب كلها زيوت نباتية.
كما حذّر “حديثي” من المعطرات ومكسب الروائح التي تحتوي على مواد كيميائية لا تستخدم للإنسان بل تضاف للمنظفات وللغاز والحمامات والأراضي والسجاد.
واجهت تجارة العطور صعوبة في بداية تحرير المدينة وأوقات القصف، فالشخص كان لا يكاد يؤمن لقمة عيشه ويشتري لوازمه، لكن مع توقف القصف وعودة انتعاش الأسواق باتت المصاعب أقل ماعدا عملية النقل من دمشق أو حلب بسبب ارتفاع أجور النقل وسعر الكحول.
العطور والإسلام
أما عن العطور في الإسلام فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العطر وروي عنه قوله: “حُبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث، الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة”.
والعطر للرجال محبب خاصة في المساجد لقوله تعالى: “يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد” وقال الله تعالى أيضًا: “يُسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”
أما النساء فقد نهى ديننا المرأة عن التعطر والتطيب خارج المنزل، لما لذلك من الأثر السيء على قلوب الرجال وأحاسيسهم، فعن موسى الأشعري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أيَّما امرأة استعطرت فمرَّت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية”.
وورد في الأثر عن عمر رضي الله عنه قال: ” لو كنت تاجرًا ما اخترت غير العطر، إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه”.
العطر لغة لها حروف ومفردات وأبجدية بعضها يصرخ وآخر يهمس وجديد يغتال وآخر يقنع، فإذا كان العطر أول إبداع العطارين يرى السوريون أنَّ عبق الوطن الذي يعلق بذاكرتهم وشذاه الذي ينتشر بين أزقته وفي حقائب طلاب مدارسه وجوامعه وأسواقه ورائحة ترابه المعطر بدماء مليون شهيد هي الأقرب والأحب لقلوبهم.