غسان الجمعة |
لا شك أنَّ الحديث عن تطورات الوضع السوري بات يفرض علينا النظر في محطات التجاذبات الإقليمية وتغيرات المصالح الدولية للدول الكبرى في الشرق الأوسط، إذ لم تعد الورقة السورية بيد أصحابها سواء المعارضة أو النظام رغم أنَّ طرفي المعادلة باتا يشكلان عين الإعصار الهادئة منذ إعلان الولايات المتحدة بدء انسحابها من سورية، في حين بدأ صراع النفوذ الإقليمي يتضح بشكل أكبر مع توظيف دول المنطقة لأجنداتها ومصالحها بشكل علني.
إنَّ ما يعقِّد طبيعة الصراع في سورية تعدد أدوار اللاعبين وتضارب مصالحهم حتى ضمن من يسمون أنفسهم حلفاء أو شركاء، فالوضع السوري ليس كالأزمة الكوبية بين قطبين لينتهي باتفاق أو انسحاب من جانب واحد، بل هو مزيج غامض من المصالح المشتركة والتنافس المحتد الذي بات يرسم الخطوط الأولى لنظام عالمي لا يقيم أيّ اعتبار لإرث التحالفات والمعسكرات لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
الخطوة الأمريكية بالانسحاب للخلف من المسرح السوري جاءت نتيجةَ ضبابية المشهد من زاوية النظر الأمريكية وفقدان للمصالح الإستراتيجية، فالقدم الأمريكية في تاريخ نشاطها الجيوسياسي دائماً ما كانت ترتكز على شراكات وتحالفات تصبُّ في مسار الأجندة الأمريكية، كما حصل في حرب الخليج الثانية وغزو أفغانستان والعراق، غير أنَّ الوضع الآن لا يسير وفق النهج الأمريكي في سورية في ظل بروز دول صاعدة على ساحة الصراع مثل تركيا وإيران والمحور السعودي وخروج الدب الروسي من نظرية الانهيار السوفيتي معلناً عودته من جديد باختطاف القرم وصيد سورية.
ومن هنا تنبع إشكالية الحل السوري، حيث باتت خيوطه بأيدي أطراف من الصعب تحقيق عنصر التوافق والتفاهم فيما بينها، فمدينة مثل (منبج) السورية نستطيع أن نقرأ بآن واحد موقفًا معارضًا تارة ومتفهمًا تارة أخرى لإحدى الدول المنخرطة بالملف السوري حول السيطرة التركية عليها، وذلك تبعاً للتفاهمات الإقليمية أو الدولية سواء بمنظار محور أستانة أو بأبعاد الصراع الإيراني العربي، أو التنافس الروسي الأمريكي، أو حتى من زاوية الرؤية الإسرائيلية تجاه قسد والأسد وتركيا.
حرب النفوذ التي بدأت أماراتها تظهر قد تكون أولى علامات المخاض الذي تطمح الولايات المتحدة إلى رؤيته في الشرق الأوسط، حيث تتشكل من بعده محاور الخير والشر والاعتدال وفق النظرة الأمريكية، وتطفو على السطح بشكل واضح مواقف الدول وبرك الدم، وعندها ستُعيد تأسيس منظومة الصراع وفقاً لمصالحها وليس كما تريد دول المنطقة التي تنطلق بسياساتها من حاجتها الوطنية ومصالحها القومية كما فعلت السعودية في اليمن وتركيا في سورية.
لقد غدت الساحة السورية بشكل خاص والشرق أوسطية بشكل عام متخمةً باللاعبين الحلفاء والأعداء المزعجين لسياسة الولايات المتحدة في ظل تنافس محموم قد يولد انفجاراً إقليمياً باتت الولايات المتحدة بحاجة إليه، وهو ما يفسر خطوتها الأخيرة التي لا يمكن أن نصفها بالانسحاب إنما الاستعداد للوثب بشكل أثقل ومختلف، وهي سياسة اتبعها ترامب عند انسحابه من الاتفاق النووي، حيث عاد إليها بطوق خانق من العقوبات.
فهل سيولد الشرق الذي تحلم به الولايات المتحدة من الخاصرة السورية أم بمخاض حرب إقليمية تحرض لها الإدارة الأمريكية من مكان آخر؟