علي سندة |
إن حقيقة خروج المستعمر شكلًا وبقائه مضمونًا عبر النظام الوظيفي الذي كرسه لعقود، لم تعد تخفى على أي سوري ينشد الحرية منذ زمن، والغوص في ماهية هذا النظام الوظيفي، تعطينا فكرة أوسع لماهية الصراع وأطرافه، لاستعادة سورية من النظام الوظيفي المهيمن عليها منذ عقود لمصلحة المستعمر.
في مقال سابق تحدثت عن ظاهرة العنف السياسي في سورية، وكانت فكرته أن السلطة السياسية منذ عقود قائمة على العنف السياسي لا التداول السلمي للسلطة، وهذا العنف سيولد عنفًا بين السلطة نفسها لا محالة (كصراع رفعت وحافظ، وصراع مخلوف والأسد حاليًا)، وكذلك بين السلطة والشعب (كأحداث الثمانين، وثورة 2011 حاليًا)، وإذا سلمنا أن ردات فعل الشعب العنيفة تجاه السلطة لأجل استعادة سورية أمر بدهي وعين الحق، بدءًا من مظاهرات الدستور في سبعينان القرن الماضي حتى ثورة 2011، فماهي خلفية عنف السلطة مع بعضها البعض علمًا أنها تنفذ دورًا وظيفيًا؟
إن الأصل في السلطة التي تدير الحكم بالعنف السياسي، هو الاستقرار لا العنف فيما بينها؛ لاستفرادها بالحكم غصبًا وقوةً، وللحفاظ على مهمتها في قمع الشعب إرضاءً لمن تتبع له، إلا أن سُنة العنف لا بد أن تطال الجميع، ولمعرفة سياق ظاهرة العنف السياسي في سورية وارتباطها بالمستعمر، نرجع إلى التاريخ قليلًا، حيث نجد أن سورية لم تعش الحرية السياسية بشكل فعلي منذ استقلالها سنة 1946 سوى ثلاث سنوات، ثم بدأت الانقلابات سنة 1949، التي هي عين العنف السياسي، واستمرت حتى انقلاب حزب البعث سنة 1963 الذي أتى على ظهر الدبابة وانتهى بوصول حافظ الأسد إلى السلطة سنة 1970 وبقي فيها حتى وفاته سنة 2000، ثم أتى بشار الأسد الوريث حتى الآن.
وبتلك العودة التاريخية السريعة، نستقرئ خلفية العنف السياسي، فأول ملاحظة هي عدم رضا المستعمر عن الاستقلال وخروجه شكلًا وسعيه للبقاء مضمونًا عبر وكلائه، فبدأ بالانقلابات التي انتهت بالتوافق على نظام البعث، والملاحظة الأخرى لمَ البعث ومفهومه تحديدًا؟ لأن القرن العشرين هو عصر القوميات بامتياز، فكان الجو العام أن يحكم العسكر بلباس القومية لتقبل الشعب ذلك في تلك الفترة، أما لمن يتبع نظام البعث الوظيفي؟ فقل ما شئت فيه، لإسرائيل وفرنسا وبريطانيا وأمريكا.. ومؤخرًا لروسيا وإيران، بل لكل من يساعده على البقاء في السلطة واستمرار الدكتاتورية..
والسؤال الأهم لمَ السلطة المسيطرة على الحكم بالعنف السياسي تتقاتل فيما بينها وتنقسم على بعضها؟ الأنظمة الوظيفية بشكل عام تتبع ما يمليه مشغلوها عليها في كل شيء، بدءًا من شكل الحكم وانتهاءً بكل تفاصيل الحياة، وبما أن مشغلي الأنظمة الوظيفية في دول العالم الثالث غايتهم استكمال الاستعمار التقليدي، فإن مصالحهم تختلف فيما بينهم كما كانوا يتنافسون سابقًا على المستعمرات بالحرب، فينعكس ذلك الاختلاف والتنافس على النظام الوظيفي الذي صنعوه، فتبدأ التيارات التنافسية لمصلحة الدول تظهر من الداخل، تمامًا كما يحدث الآن من صراع بين (رامي مخلوف وبشار الأسد) وعلاقة ذلك بالنفوذ الروسي والإيراني والإسرائيلي..، وأما سبب الخلاف التنافسي في سورية حاليًا ضمن مالكي السلطة نفسهم، فهو أولًا لحتمية وصول العنف السياسي للسلطة نفسها، ثم لقرار المستعمر إنهاء دور النظام الوظيفي البعثي وشكله الدكتاتوري القديم الذي أسسه منذ أكثر من نصف قرن، لأنه لم يعد مناسبًا في العصر الحديث الذي هو زمن الديمقراطيات وثورات الربيع العربي التي قلبت ذلك المفهوم القديم، وأما شكل التحول الاستعماري عبر النظام الوظيفي الأسدي فهو حاليًا من الدكتاتورية القديمة إلى السيطرة الاقتصادية بلبوس ديمقراطي فيما بعد مثقل بالديون، إلا أن العنف الشعبي المتجسد بالثورة لمَّا ينتهِ، بل إن سياسية رسم التبعية الاقتصادية عبر بيع سورية لروسيا وإيران وأمريكا وباقي الدول التي تروم دخول سورية اقتصاديًا بعد العنف لمَّا تنتهِ والخلاف قائم بينهم، فالحذر الحذر من التخلص من بسطار الدكتاتورية والوقوع في مصيدة الاستعمار الاقتصادي، فذلك شكل التحول القائم في سورية حاليًا.