د. عبد الكريم بكار
حين قال شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه الله-عن المنطق اليوناني: إنَّه لا ينتفع به الغبي، ولا يحتاج إليه الذكي -نُظر إلى قوله بشيء من الاستغراب، حيث كان الافتتان بالمنطق اليوناني عاماً، لكن الخبرة التاريخية واتساع آفاق التفكير وتعقد الواقع، واتجاه الأذهان نحو القضايا العملية كلّ ذلك نبّه الأذهان إلى قصور مهام المنطق التقليدي في عصمة الأذهان من الخطأ، وعجزه عن المساعدة عن استيعاب الواقع الموضوعي، وحلّ المشكلات المعاصرة.
المنطق التقليدي يسعى إلى نوع من الاتساق والانضباط الشكلي أو الداخلي بعيداً عن الواقع العملي، وهو منطق أقرب إلى أن يكون عقيما في جوانب عديدة منه؛ فالقياس مثلاً لا يأتي بجديد؛ إذ إنَّ نتيجته متضمَّنة في مقدمته، فحين نقول: سعيد إنسان، وكلُّ إنسان فان، وتكون النتيجة: سعيد فانٍ -لا نكون قد جئنا بجديد سوى تنبيه الأسماع إلى شيء من الفذلكة الذهنية!
ويبدو أنَّه لا سبيل لتخلص ثقافتنا الإسلامية من الآثار السيئة للمنطق اليوناني إلا بأن نَضُخَّ في صميمها منهجيات وأفكاراً جديدة تعتمد المعرفة والتجربة والخبرة، وتقدم الحلول المرنة والخيارات المتعددة.
ويمكن أن نلمس جوانب قصور المنطق التقليدي والمشكلات التي أثارها في الحروف الصغيرة التالية:
أ-المنطق اليوناني أشاع روح التحزب بين طلاب العلم؛ فهو لصرامته يقسّم الناس إلى قسمين: مخطئ ومصيب فإمَّا هذا، وإمَّا ذاك، والمناظرات التي تجري بين العلماء كانت تحكم بآداب المناظرة لدى اليونان، وكان العالم الفذ يدخلها فيُغُلَب، ثم يخرج منها مهزوماً، لأنَّه لم يجب على سؤال أو سؤالين أو ثلاثة!!
هذه الوضعية السيئة أوجدت نوعاً من التصلب الذهني، وجعلت لقاء المختلفين في مسألة أشبه بلقاء الأضداد. وما كان بالإمكان بناء رؤية نسبية ومتدرجة للصواب والخطأ في ظلِّ منطق يجعل الذهن يلتصق بقواعده كالتصاق القطار بسكة الحديد!
ومن ذيول التصلب الفكري الظن بأنَّ المرء إذا ثبت أنَّ خصمه على خطأ، كان هو على صواب، مع أنَّ هناك احتمالاً أن يكون الصواب مع شخص ثالث.
ب-المنطق القديم متغلغل إلى اليوم في علوم الأصول والعقيدة والنحو وغيرها، وقد عانت أنظمته التقليدية من صعوبات جمة في تعاملها مع (المقدار) ذلك لأنَّ اللغة تتعامل مع طبيعة شيء ما، لا مع حجمه. خذ مثلاً واحدة من دعاوي الإعلانات:( المعقمات تقتل الجراثيم). فالجراثيم تؤثر في الطعام التالف؛ لتسبب برائحة الفم. فإذا استخدمت معقماً في غسيل الفم فسيكون نَفَسك ألطف. ويبدو هذا في معايير المنطق القديم صحيحاً؛ لأنَّ الصدق الشكلي لهذه الترابطات صحيح. إلا أنَّ هذا خاطئ من وجهة نظر (كمية). فالمعقّم ينحل سريعاً في الفم، بحيث لا يمكنه قتل الجراثيم إلا لمدة دقيقة واحدة، على الأكثر. أمَّا الجراثيم فتتضاعف، لتعوض نفسها بسرعة.
“ولا يمكن كشف حجم الخطأ عن طريق الحجة نفسها، لكن يمكن ذلك إذا توافر لدى السامع مجال واسع الإدراك والخبرة، يتيح له الحكم على الحجة”
جـ -إنَّ المنطق اليوناني كان يعادي التجربة والنزول إلى الواقع العملي بقدر ما كان يحث على تمثل المشكلات وحلها في الذهن اعتماداً على قوانين وتجريدات ذهنية ثابتة وهذا هو الذي يشكل البنية العميقة لإعراض كثير من مثقفينا عن محاولات فهم الواقع وعلاقاته الجدلية المتشابكة اكتفاء ببعض الواقع فهم لا يفكرون فيه باعتباره كائناً متغيراً نامياً قابلاً للاستيعاب عن طريق الإحصاءات والتحليلات العملية، وإنَّما يتعاملون معه من خلال صور ذهنية يولدونها من مفاهيم تكونت عبر النظر التاريخي، وعبر العقيدة التي يؤمنون بها، وعبر بعض التجارب الضيقة المحدودة التي مروا بها، أي يحوّلون ما هو عام إلى شيء شخصي!
السياسة -مثلاً-تخضع لمبادئ، وتخضع أيضا لمصالح وتوازنات واجتهادات ومعطيات على الأرض، وكثيراً ما تفقد التناسق الشكلي، لكنَّها منطقية على مستوى ما، حيث إنَّها في جوهرها جملة من الأعمال التكتيكية ضمن خطة بعيدة المدى. وهذه الوضعية يستعصي استيعابها على الذين تعودوا معايشة الكتب والأفكار والأحكام النظرية، وفي هذا يقول ابن الأزرق: (إنَّ العلماء من بين الناس أبعد عن السياسة ومذاهبها لأمرين: الأول: أنَّهم يعتادون النظر الفكري وانتزاع المحسوسات وتجريدها في الذهن.
الثاني: أنَّهم يقيسون الأمور على أشباهها بما اعتادوا من القياس الفقهي، فهم منفردون في سائر أنظارهم بالأمور الذهنية. والسياسة تحتاج إلى مراعاة ما في الخارج، ولذلك يقعون في الغلط الكثير. والعامي السليم الطبع المتوسط الكيّس، حيث يقتصر في كل حادثة على حكمها الخاص بدون تعميم، فيكون مأموناً من الغلط))
إنَّ كثيرا من الأفكار يمكن أن يكون صحيحاً في ذاته إذا أبعدناه عن معايير الواقع الاجتماعي، ومدى تناسقها معه وخدمتها له. فرض ضرائب تصاعدية، وفتح جامعة، وإغلاق قسم، ومنع استيراد سلعة… كل هذه الأمور إذا نظرنا إليها بصورة مجردة قد تكون تصرفات صحيحة ومقبولة، لكن إذا نظرنا إليها باعتبارها إجراء في بيئة وظروف ومعطيات محددة فقد تكون صواباً، وقدتكون خطأ بحسب المهام الإيجابية التي تؤديها في خدمة المصلحة العليا.
د-حَجَب الانهماك في الاحتكام إلى المنطق التقليدي كثيراً من طلاب العلم ولا سيما في الماضي عن الاستفادة من رؤية سنن اقتصادية واجتماعية وسياسية بثها الله -جل ثناؤه-في هذا الكون، ومن ثمَّ فإنَّ زاد كثيرٍ منهم من فهم السنن وإدراك الترابطات الواقعية-قليل-لا يمكِّن من تكون رؤية كلية للواقع العام.
“إنَّ المنطق التقليدي له دقة الرياضيات، وهو يساعد على كشف بعض التناقضات، لكنَّه أعجز من أن يساعدنا في حلِّ مشكلات معقدة، تعيش تحت وطأتها أمة الإسلام اليوم؛ فهو مثلاً لا يفيدنا في الكشف عن الآثار التي تتركها الأزمات الاقتصادية في أخلاق الناس، ولا عن أثر الرفاه الزائد في الترهل الأخلاقي والانفعالي، كما أنه لا يساعدنا في معرفة المفعول الارتجاعي، ولا التغذية الارتدادية، ولا معرفة تعدد الأسباب لظاهرة واحدة، ولا معرفة الآلية المؤازرة”
سيكون من الأمور الحميدة التوجه إلى تقليص المنطق التقليدي إلى أبعد الحدود، واللجوء إلى الاستفادة من ثراء الواقع في بناء مفاهيم جديدة ومحاولة الكشف عن الترابطات السننية بين الاتجاهات والأحداث والأشياء وملء عقول الناشئة بعلوم التفكير الجديدة.
مقتطف من كتاب التنمية المتكاملة