د. رغداء زيدان |
كان من أسوأ مفرزات الحرب الطويلة في سورية عدا عن مئات آلاف الضحايا وملايين المشردين، اختفاء وفقد عدد كبير جداً من السوريين، لا يعرف أهلهم وأقاربهم أي معلومات عن مصيرهم.
وبحسب آخر إحصاء قدمته الشبكة السورية لحقوق الإنسان في آب / أغسطس الماضي فقد وصل عدد المختفين قسرياً والمفقودين في سورية إلى ما لا يقل عن 98 ألف حالة اختفاء قسري منذ مارس/آذار 2011م حتى أغسطس/آب 2019م. منهم 83574 لدى قوات النظام السوري، بينهم 1722 طفلاً و4938 سيدة. بينما أخفى تنظيم داعش 8648 شخصاً بينهم 319 طفلاً و386 سيدة، وأخفت هيئة تحرير الشام ما لا يقل عن 1946 بينهم 7 أطفال و22 سيدة. كما يوجد 2234 شخصاً بينهم 222 طفلاً و416 سيدة ما يزالون قيد الاختفاء القسري في سجون فصائل في المعارضة المسلحة، و1877 شخصاً بينهم 52 طفلاً و78 سيدة ما يزالون مختفين في سجون قوات سورية الديمقراطية.
ملف المعتقلين والمفقودين في مفاوضات جنيف وأستانة
طُرحت قضية المخطوفين والمفقودين في سورية على طاولة المفاوضات التي بدأت في جنيف في فبراير/ شباط 2016م برعاية دولية، كجزء من الملف الإنساني إلى جانب قضايا المعتقلين في سجون حكومة الأسد، وأصرت المعارضة على أن الملف الإنساني ككل غير قابل للتفاوض، وهو إجراء ضروري لبناء الثقة بين الطرفين، وطالبت بضرورة فصل المسار الإنساني عن المسار السياسي، لغاية الإسراع بتنفيذ متطلباته حتى لا يكون موضوعاً للمساومة. غير أن الملف بقي عالقاً في دهاليز المفاوضات حتى اليوم.
ومع انطلاق اجتماعات أستانة في 23 يناير/ كانون الثاني 2017م، أصبح ملف المعتقلين والمختفين قسرياً من اختصاص تلك الاجتماعات، ففي الجولة الثانية من مفاوضات أستانة، التي عقدت في 15 فبراير/شباط 2017، تم تشكيل مجموعة عمل ثلاثية (روسية وتركية وإيرانية) لمراقبة وقف الأعمال القتالية، وتشكيل آلية لتبادل المعتقلين بين قوات النظام والمعارضة المسلحة، بينما لم يتم الاتفاق على تشكيل مجموعة عمل منفصلة تختص فقط بملف المعتقلين إلا في الجولة الثامنة التي عقدت في 21 ديسمبر/كانون الأول 2017م، وقد عقدت تلك المجموعة أولى اجتماعاتها في مارس/آذار 2018، بمشاركة الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي، إضافة للدول الضامنة روسيا وتركيا وإيران. وبعد ثلاث جولات إضافية من أستانة أُعلن عن أولى خطوات مجموعة العمل تلك، لتكون عمليات التبادل أو بالأحرى صفقات التبادل هي أساس آليات الإفراج عن المعتقلين، وهو ما اختصر قضية المعتقلين والمختفين قسرياً في سورية من قضية إنسانية لها تداعياتها المجتمعية والقانونية والنفسية، إلى شيء شبيه بمسألة تبادل أسرى حرب.
لم تغفل منظمات المجتمع المدني الحقوقية عن خطورة صفقات التبادل على ملف المعتقلين والمفقودين، ومنذ 20 يناير/ كانون الثاني 2018 اجتمعت 11 منظمة حقوقية بعد شهر من الإعلان عن مجموعة العمل بخصوص المعتقلين، وسلموا رسالة لرئيس وفد المعارضة إلى أستانة، الدكتور أحمد طعمة، تضمنت محددات وطروحات مقترحة حول آلية العمل في الملف، من أبرزها:
- الدعوة إلى فصل ملف المعتقلين والمفقودين عن المسار السياسي.
- الحفاظ على طابعه الحقوقي الإنساني، كما تنص القرارات الدولية.
- تجنب الانجرار إلى فخ قوائم أسماء المعتقلين، الذي ثبتت آثاره السلبية وعدم جدواه بالتجربة العملية.
- إسناد الملف إلى أصحاب الخبرة الفنية الحقوقية والقانونية.
- إشراك ممثلي منظمات المجتمع المدني المختصة.
اللجنة الدستورية وقضية المعتقلين والمفقودين:
في الجلسة الافتتاحية للجنة الدستورية، قدم عدد من أعضاء اللجنة الموسعة من قائمة المجتمع المدني مطالبات بالإفراج عن المعتقلين والمعتقلات وبيان مصير المفقودين والمفقودات والمختفين والمختفيات، وذلك عبر الكلمات التي قدموها خلال تلك الجلسة. وخلال الجلسة الأولى من جلسات اللجنة المصغرة لصياغة الدستور تم طرح موضوع العدالة الانتقالية في مناقشات الجولة، وقد قدم ستة من أعضاء اللجنة الدستورية المصغرة عن وفد المجتمع المدني ورقة تتضمن أفكاراً دستورية وردت في كلمات أعضاء اللجنة الموسعة في الجلسة الافتتاحية، وتم تسجيلها في محضر الجلسة الأولى يوم 6/ 11/ 2019م، ومن ضمنها 42 فكرة تتحدث عن العدالة الانتقالية وتطالب بالإفراج عن المعتقلين والمعتقلات وكشف مصير المفقودين والمفقودات والمختفين والمختفيات قسرياً في سورية. كما تم تقديم “لا ورقة” في نهاية الجلسة الأولى 8/ 11/ 2019 من قبل ستة من أعضاء اللجنة الدستورية المصغرة عن وفد المجتمع المدني، وسجلت في محضر الجلسة، تضمنت المطالبة بما يلي:
- العمل على الإفراج الفوري عن جميع معتقلي ومعتقلات الرأي من قبل جميع الأطراف في سورية.
- الكشف عن مصير جميع المختفين والمختفيات قسرياً والمخطوفين والمخطوفات من قبل جميع الأطراف.
- توقف عمليات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري التي مازالت مستمرة في سورية.
- تشكيل لجنة وطنية لمراقبة إطلاق سراح المعتقلين بشكل دوري وفق جدول زمني يُطلب من جميع الجهات التي تحتجزهم، وإيقاف العمل بالأحكام الصادرة عن المحاكم الاستثنائية، كالمحاكم الميدانية ومحكمة الإرهاب.
وكانت هذه “اللاورقة” أول ورقة رسمية يستلمها وفد النظام لها علاقة بالمطالبة الصريحة بالإفراج عن المعتقلين والمعتقلات وكشف مصير المفقودين والمفقودات وإيقاف عمليات الاعتقال والإخفاء القسري الممارسة في سورية، وقد وجدت ممانعة في قبولها من قبل الوفد الممثل لحكومة النظام في اللجنة متذرعاً بأن ما ورد فيها لا يخص العملية الدستورية، غير أنه اضطر لاستلامها مشفوعة بملحق فيه 22 مقتبساً من مداخلات أعضاء اللجنة الموسعة، بناء على جدول الأعمال الذي كان يناقش ما ورد من أفكار دستورية في كلمات أعضاء اللجنة الموسعة.
وفي الجولة الثانية من اجتماعات اللجنة الدستورية لم تُعقد الاجتماعات، بسبب عدم اتفاق الرئيسين المشتركين للجنة على جدول الأعمال، وتعطل عمل اللجنة منذ أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
وفي إطار جهود أعضاء اللجنة الدستورية من وفد المجتمع المدني وبعد ظهور وباء كورونا تم تجهيز بيان من قبل بعض أعضاء اللجنة الدستورية المصغرة عن قائمة المجتمع المدني حول طرق مواجهة جائحة كورونا في سورية، ومما ورد فيه: “القيام بمزيد من الضغط على نظام الأسد لإطلاق سراح أكثر من 130.000 معتقل تعسفياً في سجون الأسد، وكذلك الضغط على الجهات العسكرية الأخرى لإطلاق سراح المعتقلين والمحتجزين تعسفياً لديها المعرضين اليوم لخطر أكبر في ظل تفشي الوباء، والسماح للصليب الأحمر بزيارة كل مراكز الاعتقال والتأكد من توفر الظروف التي لا تسمح للجائحة بالانتشار”. وقد وقع البيان 93 منظمة مجتمع مدني، وتم نشر هذا البيان وإرساله إلى جهات دولية وأممية عديدة.
ما الفرص المتاحة أمام اللجنة الدستورية في قضية المعتقلين والمفقودين؟
بصفتي الشخصية كعضوة في اللجنة المصغرة لصياغة الدستور عن وفد المجتمع المدني أجد أن أمام اللجنة الدستورية فرصة جيدة للتقدم في ملف المعتقلين والمعتقلات والمختفين والمختفيات والمفقودين والمفقودات في سورية من خلال خطين متزامنين:
- أحدهما يتعلق بمشاركة أعضاء من اللجنة الدستورية خاصة في مجموعة المجتمع المدني في عملية التحشيد والمناصرة لقضية المعتقلين والمعتقلات والمفقودين والمفقودات والمختفين والمختفيات قسرياً للضغط على الأمم المتحدة والأطراف الدولية الفاعلة في الملف السوري من أجل العمل على:
- إطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات والمخطوفين والمخطوفات والكشف عن مصير المفقودين والمفقودات عند جميع الأطراف في سورية وبصورة خاصة عند حكومة النظام في دمشق كونه المسؤول الأكبر عن حالات الاعتقال والاختفاء القسري، كإجراء لبناء الثقة بين الأطراف السورية.
- فصل ملف المعتقلين والمعتقلات والمختفين والمختفيات عن الملف السياسي، وعدم ربطه به ولا المساومة عليه.
- توحيد جهود المجتمع المدني وتشكيل لجان قانونية لمتابعة موضوع المعتقلين والمعتقلات والمختفين والمختفيات قسرياً، ومحاسبة الجناة ومرتكبي الانتهاكات ضمن الأطر القانونية المتاحة.
- أما الخط الثاني فيتعلق بالعمل على الدستور الجديد لسورية، والذي يجب أن يتضمن آليات دستورية وقانونية تمكن السوريين من تحقيق العدالة ومحاسبة الجناة وجبر ضرر المتضررين من عمليات الاعتقال والاختفاء القسري وما رافقهما من تعذيب وقتل وانتهاكات مختلفة، وذلك عبر:
- تثبيت الأسباب الدافعة لإنتاج دستور جديد لسورية في ديباجة الدستور تنص على رغبة السوريين بالتخلص من الاستبداد وبناء دولة تحترم القانون وحقوق الإنسان.
- تعزيز مفهوم المواطنة والمساواة أمام القانون وعدم التمييز بينهم، عبر نصوص دستورية واضحة للاعتراف بالحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمواطنين، ونصوص تمنع المساس بتلك الحقوق، وتؤسس لآليات جبر الضرر جراء الانتهاكات التي تعرضت لها هذه الحقوق.
- على الدستور أن ينص على أن مواثيق حقوق الإنسان والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان الملزمة أو المصادق عليها لا يجوز للمشرع مخالفتها. كما يجب أن يضمن الدستور الجديد الحقوق والحريات، وعدم الاكتفاء بالنص عليها وإحالتها لقانون، كما جرت العادة في الدساتير السابقة، حتى لا يمكن الانقلاب عليها مجدداً من خلال هذا القانون كما حصل في سورية.
- إيجاد آليات تضمن الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مع ضمان وجود رقابة برلمانية على عمل السلطة التنفيذية، والنص على استقلال القضاء والقضاة عبر أحكام تفصيلية واضحة دون أن يحيل الدستور أمر تنظيمها وسلطاتها واختصاصها لسلطة أخرى.
- يجب أن ينص الدستور الجديد على استقلال المحكمة الدستورية العليا وقدرتها على النظر في دستورية القوانين قبل إصدارها، وكذلك تمكين المنظمات الحقوقية من الطعن أمامها بعدم دستورية القوانين التي تتعارض أو تحد من حقوق الإنسان.
- إيجاد مؤسسات دستورية تعالج حقبة الاستبداد والنزاع في سورية، وتضمن عدم تكرارها. وتحدد الملامح الأساسية لها، من مثل المفوضية العليا لحقوق الإنسان، والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وهيئة النزاهة ومكافحة الفساد وغيرها، والنص دستورياً على أن تلتزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها.
- وضع أحكام ختامية وانتقالية للدستور تتحدث عن آليات تعديل الدستور والقوانين التي تتعارض معه. وأن يقرر في أحكامه الانتقالية ما يفيد بإنهاء العمل بالتشريعات التي تخالف أحكامه، وبشكل خاص المتعلقة بالحقوق والحريات.
- من أجل سلامة مسار العدالة الانتقالية، لا بد من إطلاق دور المجتمع المدني، وعلى الدستور الجديد ضمان ذلك بنصوص واضحة لا يمكن للسلطة التنفيذية عرقلتها.
- على الدستور الجديد أن يضمن من خلال نصوص واضحة تقييد المؤسسات الأمنية ومؤسسات الجيش والشرطة ضمن الدور الوطني المناط بها، وعدم السماح لها بالتعدي على الحقوق والحريات.
لقراءة تفاصيل أكثر أو للتحميل يرجى الضغط على الغلاف