يوسُف القرشيّ
الوحشيّة والهمجيّة التي قد تصدُر عن الإنسان استثنائيّة، تستولي على صاحبها فتُعمي قلبَه وتُخرس عقله، وتُذهب به كلَّ مذهب إبليسيِّ قد تصوَّره متشائمو الفلاسفة أو لا لشدّة فظاعته، ولن تجد أبرع من تلك الحيوانيّة اللاإنسانيّة من عُبَّاد المجرم حافظ من المخابرات والسجَّانين.
ما يقرُب عن سبعٍ وأربعين عاماً من الرعب البحت عاشَته السجون السوريّة دون نصير للقابعين فيها من مجتمعٍ دوليّ أو غيره، نفوس خبيثة تفجرَت منها الأحقاد والآلام لتحوطَ أناساً قيّدتهم الأصفاد جلُّ ذنبهم أنَّهم قالوا كلمة حقِّ عند سلطان جائر، كلُّ تلك الدونيّة اجتمعت في أبناء طائفة حافظ ممَّن وافقه على إجرامه، وفي بعض الإمَّعات من باقي الشرائح، وقد حوت من الكفر ما لم يجرؤ عليه المشركون الأوائل.
هذا المقال الذي بين أيديكم أيها السادة والسيدات سوف يتناول إحدى روايات المسجونين السابقين في سجون النظام، فبعد خروجه من سجون الطغاة روى ما حدث معه في روايته تلك، ليجسّد معاناته ومعاناة زملائه من خلالها، رواية تنقل لكم نبذة خفيفة مُغّبّشة عن الفظائع التي تعرَّضوا لها، فظائع تخجل اللغة ذاتها أنَّها تنقلها.
القوقعة (يوميات متلصص): ودَّعَ أحد الشباب المُفعَمين بأملِ خدمة أوطانهم حبيبته في مطار باريس مع جرعة أخيرة للبيرة مُتّجهاً إلى وطنه الأم سورية، هذا الشاب النصرانيّ قضى ستّ سنوات في باريس يتعلَّم فيها الإخراج السينمائي وقد تفوَّق فيه.
أوّل ما حطّت قدماه على أرض وطنه تلقَّفتهُ أيدي المخابرات السورية ليقضي بعد ذلك ثلاث عشرة سنة في رحلة من الرعب والقهر في السجون وذلك بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين، وهو نصرانيّ الأصلِ مُلحد العقيدة!
لسوء حظه لم يفقه الضابط المسؤول عن التحقيق معه أنْ لا علاقة بين الإلحاد والتنظيمات الإسلامية، فأمر به إلى سجن تدمر، هناك حيثُ التجسيد الدنيوي للجحيم، كان حفل استقبالهم مهيباً، فقد كان الحفل سببا في وفاة البعض، وعطب البعض، وجنون البعض، غير أنَّنا نحمد الله أن نجى كاتب القوقعة من تلك الثلاثة لينقلَ لنا ما حصل، غير أنّه أكد أنَّ الأذى النفسي الذي لحقَه لا تزال بعضٌ من آثاره لا تفارقُه.
لن نخوض في الجزئيَّات المفزعة التي تكلّم عنها في روايته كوننا نلقي الضوء فحسب، لكن الجدير بالذكر أنَّ إدارة سجن تدمر أجبرت حملة الشهادات الجامعية على الشرب من مياه الصرف الصحي القذرة التي اختلط البصاق فيها بالغائط، على وقع ألفاظ الكفر والشتيمة، فيا ترى ماذا كانوا يبغون من وراء إيذاء الكرامة وسلخ الإنسانية عن
المسجونين؟! أمَا اكتفى حقدهم بالجسد لينتقلوا الى استباحة حقوق الكرامة الإنسانية؟!
وقد وضّحت هذه الرواية أنَّ قذارة تلك الكائنات لم تقتصر على الجُهَّال منهم، فها هو طبيب السجن يقتل كلَّ زميل كان معه في دفعته الجامعيّة لأسباب تافهة مجهولة ويتلذَذ في ذلك، فبالله عليكم من أي شيء وُلدت تلك الكائنات؟!
كما وضعت الروايةُ يدها على شيء من الجُرح الذي تجاهلت مداواته التيَّارات الإسلامية في تلك الحقبة، فها هو كاتب الرواية يُتَّهم بالنجاسة من قبل السجناء الإسلاميين ويُتجنَّب ويُخصّ بعزلة فوق عزلة السجن، فيقاطعه المسجونون عدّة سنوات عن الكلام كأنَّه الشيطان قد تجسَّد أمامهم، ثمَّ يخرج بعد كلِّ تلك السنوات من السجن غير مسلم على الرغم من سهولة اجتذابه وقتَها؛ إذ يكون متطلّعاً لأن يتقوقع على الجماعة، فمنعوه عنهم وزهدوا عن أجره حتى تقوقع على نفسه وما رجع ولا هم بخير الإسلام وخير الدعوة إليه.
وذاك يوضّح تأخُّر النصر عن المظلومين آنذاك وتمكُّن النظام رغم بشاعة ما كان فيه من القضاء على الصادقين واقتراف مجزرة حماة، وها هو اليوم يتقدّم حتى أوشك على أن يطبق بفكَّيه على الذين لا يفارق السواك أفواههم، ولا يزالُ البعضُ يتحدَّث عن حكم قول (صدق الله العظيم) أو يستنجد بأعدائه لينصروا دينَه!
في الختام استطاع كاتب القوقعة النجاة من ذلك السجن بوساطةٍ من خاله الذي كان وزيراً وقتها، نجاة ما تمَّت بغير طلب (استرحام) قد رُفِع إلى حافظ ليرحمَ الكاتب ويعفو عنه حسب مزاعمهم، وقد عرف الكاتب لاحقاً أنَّ السبب الحقيقي وراء اعتقاله هو تقرير من أحد زملائه في باريس، يشي فيه بالكاتب بأنَّه قد تلفَّظ بعبارات نابية في حق القائد الخالد (المعبود) حسب زعمه حافظ الأسد.
أنكر البعض على كاتب الرواية سوقَه للكفريات والشتائم كما وردت على ألسنة أصحابها القذرين، في حين اعتبر البعض الآخر ذلك ضرورياً لإيضاح شيء بسيط ممَّا جرى، وفي كلّ الأحوال كانت الرواية وثيقة أدبية على وحشية هذا النظام وطُغيانه وسعيِه بالكفر، وإن غضَّ المجتمع الدولي طرفه عن تلك الجرائم فلا ريب أنَّ طَرْف التاريخ ما خُلق ليغضّ، والأيام دول.
1 تعليق
Ala
مقال اكثر من رائع يصف فيه وضع هذا النظام الفاسد الكافر . عليه من الله ما يستحق. ان الله يمهل و لا يهمل.