فاطمة حاج موسى |
الروائية والكاتبة السورية “ابتسام إبراهيم تريسي”(١٩٥٩م) ابنة مدينة أريحا جنوب محافظة إدلب، خريجة جامعة حلب قسم اللغة العربية، عاشت فترة من الزمن في دولة الكويت، صدر لها عشر روايات وأربع مجموعات قصصية مشغولة بقلم أديبة لم تحظَ في وطنها بمكانة تستحقها.
حازت على الجائزة الأولى لمسابقة “سعاد الصباح” عن مجموعة “جذور ميتة”، والجائزة الأولى لموقع (لها أون لاين) عن مجموعة “نساء بلا هديل”، والجائزة الأولى لمسابقة “المزرعة” عن رواية “الخروج إلى التيه”، بالإضافة إلى دخول رواية “عين الشمس” القائمة الطويلة لجائزة البوكر عام ٢٠١٠م تناولت فيها عوالم سورية في عهد حافظ الأسد من خلال علاقة حب مستحيلة بين نسمة وشمس في سياق كانت تمارس فيها السلطات عنفاً سياسياً على الشعب السوري، سيرة ذاتية للاستبداد ومتابعة دقيقة لمراحل تشكله وتكونه، ورصد ذكي لخفاياه النفسية والبيئية والحياتية قدمتها الكاتبة “ابتسام تريسي” ببراعة وصدق قاسيين، حيث عرت الحقيقة فبدت كمأساة نحياها ولكن لا ندرك كنهها إلا في نهاية الطريق، لكن الكاتبة أدركتها ووعتها ثم صبتها في قالب روائي شيق، يؤرخ مسيرة الاستبداد، ويرصد مسالك الفساد، من خلال شخصيات تبعث فيها الكاتبة الروح على الورق بعد أن تمنحها اللحم والدم بمداد روحها المبدعة.
أما رواية “مدن اليمام” تتصدر بالإعلان عن مصدرها “نور حلاق” ابن الكاتبة مع صديقه فراس، سعياً منها لتأكيد المرجعية الواقعية وبالتالي تأكيد الوثائقية، يلي ختام هذه الرواية ما تعنون بخارج النص الروائي وفيه متابعة لمصائر شخصيات الرواية المذيّلة بتاريخ إنجازها (٢٠١٢/١٢/٣١م) ولأن الرواية تخييل مهما يكن فيها من السيري أو الوثائقي، ويبدو أن الرهان الأكبر لهذه الرواية كان التحويل المزدوج نال من هذه المحاولة ما نتأ من سلطة الساردة مثال: جعلت طفلاً لاجئاً بمخيم الزعتري خطيباً مفوهاً، وكذلك نتأ من اللجوء للملخصات السردية تحت ضغط المادة السردية الغزيرة، كما نال ما نتأ من المبالغات والتكرار بمشاهد الاغتصاب والتعذيب بقصص شخصيات الرواية، غير أن الفن الروائي البديع سرعان ما كان يلتف على هذه النتوءات، ومن ذلك: تناسل الحكايات وتعدد الرواة و اشتباك ألسنتهم من دون أي شاخصة ترشد القارئ، وبناء شخصيات الرواية بابتداع بمقاربة مع الواقع رغم فخاخ السيرية والوقائعية.
لم يكن اعتقال ابن الكاتبة من قبل النظام السوري هو المحرض للكتابة، إنها سورية بكافة أوجاعها قبل الثورة وبعدها، هي تاريخ طويل من التقلبات التي عاشها شخوص رواياتها، وحسب قولها إن أشخاص كثر يعتقدون أنه من الصعب التعبير عن الألم العظيم أثناء عيشه! بمعنى أنه يجب أن تكون هناك مسافة زمنية بين العمل الروائي والحدث لكنها رأت العكس، لذلك كتبت لابنها نور ومنه عملين روائيين، أحدهما أثناء اعتقاله طُبع قبل أن تعرف مصيره وهو “مدن اليمام” والثاني طُبع بعد خروجه من المعتقل باسم “لمار” لأن ابنها كان جزءًا من تكوينها وروحها، لذلك استطاعت أن تصنع منه شخصية روائية، كما كتبت له العديد من الرسائل على صفحة (الحرية لنور حلاق) بفيسبوك، تلك الرسائل الموجهة من أم لابنها المعتقل تحولت لرسائل من الابن المعتقل لأمه، أرادت من خلالها أن تمنح أمهات المعتقلين دعماً نفسياً وأملاً لأنها واجهة المسألة بصلابة واستطاعت أن تهزم الزنزانة داخلها وتخرجه من عتمته.
شاركت الكاتبة للمرة الأولى في تظاهرة (٢٠١١/١٢/٢٨م) رغم قناعتها بأن دورها ليس في الشارع، فإنها تنسى فضول الكتابة، يعبر عن حالة الكاتبة ما يرسله المخرج “نورس” إذ يقول: “يبدو أنه من المفيد أن تُحول المخيلة إلى واقع أحياناً، بدلاً من تحويل الواقع إلى مخيلة، كي نلمس بأحاسيسنا كلها الفرق بين قسوة التجربة ورفاهية المخيلة”.
قبل الثورة السورية كانت “ابتسام تريسي” قاصة وروائية حصدت العديد من الجوائز الأدبية، أما بعد الثورة وحسب حديثها “لم يتغير شيء سوى تعمق الألم والإحساس المتفاقم بالفقد والحنين وتراكم الكآبة، الروح نفسها تسكن التفاصيل قديماً وحديثاً، إن صحت التسمية.” لأنه وحسب قولها مشروع الروائي مستمر دون انعطافات أو تعرجات، رُسم بدقة منذ أول رواية وفتحت له ظروف الثورة الأبواب ليتوغل بعمق التجربة الحياتية والتاريخية لشخصيات عاشت وتعيش من خلال إرثها المستمر على الأرض وتجد نفسها مهمومة بالواقعي، اجتماعياً وسياسياً، بالمجتمع السوري والتحولات الناعمة والحادة التي عاشها الإنسان السوري حتى اليوم.
“النزوح”، كلمة لا يستطيع شرح مفرداتها إلا من عاش التجربة خارج مرتع الطفولة والشباب، أريحا الأحب على قلب الكاتبة حين تذكر مدينتها تحتاج إلى آخٍ تخرج من الضلوع، لتحملها الريح وتصرخ في الفضاء.. لكنّها مطمئنة بأنه لن يسمعها أحد! فالألم يمضّ جنب صاحبه فقط، يضعفها الحنين ويهزمها ويشعرها بالعجز. والبلد الذي يعيش فيه النازح يبقى بلدًا غريب
جل أمنيات الكاتبة “ابتسام” التي تحلم بأن تتحقق قريبًا أن ترى بعينيّها سقوط النظام، وفرحة أمهات المعتقلين بعودتهم سالمين، وأن تعود إلى بلدها، وتزور قبر ابنها وقبور إخوتها وأبيها، وأن ترى أبناء المخيمات وقد عادوا إلى بناء قراهم المهدمة، والمهجّرين إلى بيوتهم المسروقة، أمنيتها أن ترى السوري وقد امتلك بعض الوقت لترميم جراحه ومعالجة أحزانه.