أحمد العبسي |
ليس جديداً أن المرأة العربية مازالت تعاني بشكل كبير من أشكال تمييز شديدة الخطورة ضدها، لكن هذا التمييز لا ترتد أثاره على المرأة وحدها، التي تقبع في حالة مظلومية منذ أكثر من خمسين عاماً تقريباً على بداية حركة النهضة العربية، وإنما تمتد للمجتمع العربي الذي صار يتشكل بطريقة عرجاء، عندما أصبح ذكوري الهوية والتوجه والديناميكية، ولا يهتم بالمرأة إلا كسلعة ترويجيّة مهمتها جذب الرجال قبل بنات جنسها من النساء. التي من المفترض أن تكون لهم الأنموذج الذي يساعد على استعادة المرأة لحقوقها وكيانها.
كما أنه ليس جديداً على الإطلاق عندما نقول إن التربية النسوية العربية ساهمت في إضفاء الطابع الذكوري على المجتمع العربي، هذه التربية التي دائماً ما كانت تستند إلى مقولات دينية مفرغة المحتوى ومجتزأة من سياقها، تجعل الاتجاه نحو تقديم الذكر وتحجيم دور المرأة حالة تعبديّة تسعى لها المرأة والرجل على السواء، وجميع من كان يشذُّ عن هذه القاعدة كان ينظر إليه كجزء من مجتمع متحرر (متفلت على الأصح) لا يقيم للتعاليم الدينية والمجتمعية وزنها الذي يحفظ نقاء المجتمع العربي والحالة القويمة في التربية.
عبر هذا الإطار النظري تم وضع المحددات الثيوقراطية التي ساهمت في شرعنة مظلومية المرأة، وتركها حبيسة المنزل أو بعض الوظائف ذات الصيغة التربوية أو الطابع المحافظ، التي لا يجوز لها أن تخرج منها إلا عندما تقرر الانسلاخ عن هويتها والاتجاه إلى هوية موازية يُعبر عنها بالتحرر أو التفلت في المجتمع العربي عامة.
شهد المجتمع العربي إزاء هذه الحالة تشظي في الهويات التي تنتمي لها المرأة، فيما حافظ الرجل على هوية واحدة تقريباً، ففي حين أن الرجل العربي ينتمي إلى الثقافة العربية بتنوعها بدون تمييز يكاد يُذكر إلّا في نطاقات ضيقة ليست موضوعنا الآن، أصبح للمرأة العربية ثلاث هويّات واضحة ومتوازية، وفي حالة صراع ضمني لا يظهر على السطح غالباً، وتحكمه الحالة التربوية والبعد الأخلاقي الديني الإيديولوجي
الهوية الأولى: كانت هوية المرأة المحافظة، ربة المنزل الملتزمة دينياً، والتي تعمل فقط على حفظ زوجها وتربية أبنائها بإرادته، وعلى طريقته، وهذه الهوية هي الأكثر انتشاراً ونمطية في العالم العربي، والأكثر تعبيراً عن الحالة النسوية فيه
الهوية الثانية: هوية المرأة المتحررة، والتي كانت تتمثل بالمرأة العاملة بشقيها الأول: الذي بقي من الناحية الشكلية محافظاً وينتمي للهوية الأولى شكلاً ونصّاً ويدعي أنه يقوم بتحرير المرأة وفق القواعد الدينية الصحيحة، والثاني الذي خرجت فيه المرأة حتى من الإطار الشكلي، وصارت تُحسب على النموذج العلماني الغربي حيث دعا إلى تحرير المرأة من جميع القيود وإعطائها حريتها كاملة دون النظر إلى الضوابط الإيديولوجية سواء كانت هذه الضوابط حقيقية أو زائفة، فقد كانت المرأة ترى هنا أنّ عليها أن تخطو إلى الأمام، وعلى المجتمع أن يعمل على شرعنة خطواتها، لا أن تنتظر المجتمع ليشرعن لها طريقها ويعيد رسمه بنفس الطريقة الذكورية التي تسيطر على المجتمع والبعد النظري والفلسفي الذي يحكمه
الهوية الثالثة: هوية المرأة غير المسلمة، تلك المرأة التي اقتحمت مجالات العمل بأريحيّة، وكان لها دور الريادة بالدعوة إلى تحرير المرأة على اعتبار أنها لا تخضع لبعد إيديولوجي يقيّد عملها، وتستند على نظرية غربية تراها أنموذجاً في تحرير المرأة.
الهوية الثالثة تحركت بأريحية نسبية أكثر من الهوية التي قبلها، إذ كانت لا تتعرض لأي ضغوطات من المجتمع الذي كانت تسود فيه الهوية الأولى، على مبدأ (لكم دينكم ولي دين)، بينما كانت الهوية الثانية في صراع محتدم مع الهوية الأولى باعتبارها خرجت من بين صفوفها كحالة تمرّد، وفي صراع أيضاً مع الهوية الثالثة التي تحاول أن تذهب بها إلى بعد علماني يخرجها عن إطارها الإيديولوجي بدعوى الاندماج، وفي صراع (بيني متشتت) بين مختلف طبقاتها وأجزائها يتلخص في أين يجب أن نقف؟ وكيف نجعل لحرية المرأة معايير خاصة بمجتمعنا الشرقي الذي يتمتع بهوية تختلف عن الهوية الغربية؟ التي تعمل على صهر كل الثقافات داخلها بدعوى العالمية والبعد الإنساني الواحد، والعولمة المكثّفة.
هذه الحالة على الرغم من تغيّرات كبيرة نسبياً في المساحات التي تشغلها كل هوية من المجتمع النسوي العربي، والذي شهد قفزات كبيرة في السنوات العشر الأخيرة على الأقل، لازالت تمثل الشكل المسيطر على الجغرافيا الاجتماعية للمرأة العربية سواءً في البلدان العربية أو في المهجر.
ولكن ما هو الحل؟؟ وكيف تستطيع المرأة تجاوز صراعاتها داخل العقلية العربية والنسوية خصوصاً من أجل خطوات أكثر حسماً وأكثر قابلية للاستمرار والتطور في مستقبلها.
لا بد ألّا ننكر أن الثقافة العربية الإسلامية حالة مسيطرة لن يجدي التعامل معها بإقصاء أي فائدة في هذا الطريق، فالعقيدة الراسخة والبعد الغيبي الأخروي كفيلان في استمرار تحطيم أي تيار يحاول المواجهة بمقولات دينية شديدة اللهجة تصل حدود التكفير في كثير من الأحيان، لذلك لا بدّ من العمل على إعادة إنتاج الفهم الإسلامي وفق المصادر، وهنا لا بدّ أن نشير إلى أن هذه المصادر مليئة بما يساعد المرأة في خطواتها القادمة ويجعلها تسير بكل ثبات وتمكّن. إذ أنّ الحالة السائدة من الفهم لهذه المصادر مليئة بالتشوه التاريخي الذي حكمته الظروف والأعراف والتقاليد التي تخص أزمنة معينة لا يمكن أن تنطبق على أيامنا هذه، فلا بد من إعادة عصرنة الفهم للموروث الديني الإسلامي بما يلائم حركية المجتمع بجزأيه لكي يتخلص من العَرَج والتشوه.
الأمر الثاني المهم جداً هو لا بد من مراعاة الجوانب الوظيفية لدى المرأة، أو لنقل حالة التكامل الوظيفي مع الرجل دون الانتقاص من حقها الكامل في الممارسات الاجتماعية والسياسية وغيرها، إذا كنا نعتقد أن المجتمع هو صيغة متكاملة فلا يجب أن تتصادم أدوار المؤسسات فيه فضلاً عن الأفراد فضلاً عن النساء والرجال، فالمساواة الكاملة هي حق، ولكن لتأخذ المرأة ما تريده هي، لا أن نملي عليها ما يجب أن تأخذه لكي تكون امرأة عصرية ومتحررة.
الأمر الثالث ينبغي أن يكف المجتمع عن حالة المقارنة بين الرجل والمرأة وكأن هناك حرباً ضروساً بين جزأيه، وإنما عليه أن يعيد بناء الحالة الصحية بين هذين الجزأين من خلال التعليم والتربية، والإعلام، وإعادة رسم خطوط هذه العلاقة بشكلها السوي، فالمرأة لا تأخذ حقوقها من أجل أن تصبح كالرجل، إنه أمر مهين للمرأة سعيها لأن تكون كالرجال، كما هو مهين للرجال أن يسعوا ليكونوا كالنساء، عليها أن تأخذ حقوقها لتكون كما هي .. امرأة فاعلة في مجتمعها تمثل بعده الأشد أهمية والذي يتكئ عليه البعد الآخر الذي يمثله الرجال.
إن فهم حالة مساواة المرأة بالرجل على أنها حالة مستقلة عن التكامل الوظيفي سيعود علينا بمجتمع مشوه آخر أصبح كلّه رجالاً إذا شابهت المرأة الرجل، أوكلّه نساء إذا حدث العكس، .. على الحالة الجندرية أن تكون موجودة بجزأيها كما هي، أن تُشبه المرأة نفسها وتحقق ما تطمح إليه، وكذلك الرجل.
أخيراً ..
لا بد أن تصدر حركيّة المرأة عن المرأة نفسها، لأنها إن صدرت عن الرجل ستبقى رهينة تصوره عن دور المرأة، وهذا التصور مهما كان عادلاً لن يحقق طموح المرأة ولا الكمال الذي ترنو إليه، لأنه لا يصدر إلا عن حاجات اجتماعية بتواجد المرأة بالنسبة للرجل، وليس عن حاجات اجتماعية ذاتية للمرأة لا تتحقق إلا بوجودها من خلال رؤيتها هي وفهمها السيكولوجي لهذه الرؤية.
التحدي الحقيقي هو في إعادة صياغة العقلية العربية بجزأيها، أن تعرف المرأة دورها حقيقة وتعمل على إعادة صياغته في كافة مؤسسات المجتمع التي تضمن لها تواجداً مهماً لهذا الدور في المستقبل، وخاصة في قطاعات التربية والتعليم والإعلام، وعلى الرجل أن يلتزم بإرادة المرأة وطموحها، ويسعى لخلق الحالة التكاملية التشاركية معها من أجل الوصول لمجتمع أفضل.