أ. شفيق مصطفى |
لقد كان للمسجد في المدينة دور كبير في صقل شخصية المرأة (مهاجرة وأنصارية)، وقد ساعد على ذلك قرارات النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله”.
كان من آثار ذلك القرار احتكاك النساء المهاجرات بالأنصاريات وبشكل يومي، فزادت الخلافات في كثير من بيوت المهاجرين لاختلاف البيئة الاجتماعية بين مكة والمدينة، ومع قرار النبي صلى الله عليه وسلم الثاني: “لا تضربوا إماء الله” حصل جوٌّ من الاحتقان بين المهاجرين وأزواجهم، وبقي هذا الحال مدة من الزمن.
رجال يشكون أزواجهم!
جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله إن النساء قد ذَئِرْنَ على أزواجهنَّ!” (ذئرن: أي تجاوزن الحد فهضموا حقوق الزوج).
فنزلت آية جواز ضرب (المرأة الناشز) بشروط، وبقي منع الضرب في سائر النساء،
ومع ذلك فقد كرِه النبي صلى الله عليه وسلم ضرب المرأة وإن كانت ناشزًا،
فقال عليه الصلاة والسلام:” لقد أطافَ بآلِ محمَّدٍ نساءٌ كثيرٌ يشكونَ أزواجهنَّ، ليس أولئكَ بخيارِكُم“.
حقوق راسخة في المجتمع
مع نهايات السنة الرابعة للهجرة، بدأ المجتمع الجديد في المدينة يأخذ طريقه نحو الاستقرار الداخلي، فالنساء تحضر الصلوات في المسجد وتنخرط في الفعاليات التي تحصل فيه، وتحضر المعارك وتشارك فيها قتالًا في الصفوف الأولى وفي الجهد الداعم
لم يمضِ العام الخامس للهجرة إلا وقد ثبتت أغلب حقوق المرأة في المجتمع، بل وأصبحت واقعًا يحترمه الرجال ويدافع عنه الرسول عليه الصلاة والسلام.
ترسَّخت ظاهرة تعليم النساء وباتت من المسلَّمات، وللقارئ العزيز أن يتخيل في تلك الحقبة نساء تخصصت لتعليم النساء القراءة والكتابة وكل العلوم المتاحة، في حين كان ذلك (الحق) حلمًا لكثير من الرجال خارج تلك الدولة الناشئة!
أما حق الملكية فقد سبق وحصلت عليه النساء منذ العهد المكي، وكذلك حق العمل، فكثير من النساء كانت تتاجر بمالها وتشارك زوجها في الاعتناء ببساتين النخيل في المدينة وغيرها، وكُتب الفقه لا تناقش هذه الحقوق أصلًا كونها ثابتة وأمرها محسوم، بل كانت النساء تشارك في جيش النبي صلى الله عليه وسلم في معظم الغزوات، ابتداءً بأُحُد وانتهاءً بفتح مكة وما بعدها.
أعلى الحقوق..!
يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا منتصرًا، فيصدر الأمر بإعدام عدد من مجرمي الحرب الذين كانوا من أشد الناس عداوة وإيذاءً للمسلمين، يهرب أحدهم لبيت (أم هانئ) بنت أبي طالب أخت علي بن أبي طالب، ويستجير بها!
والجوار عند العرب يشبه ما يطلق عليه اليوم اللجوء السياسي، وكان حقًا خطيرًا في الجاهلية والإسلام وإلى يوم الناس هذا، ويترتب عليه تبعات ومسؤوليات كبيرة تقع على الجهة التي تعطي هذا الحق قبيلة كانت أم دولة، لذلك ففي العرف العربي قبل الإسلام كان هذا الحق مختصًا بالرجال ومن طبقة معينة ضمن القبيلة.
يتنبه علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى أن أحد هؤلاء المجرمين قد دخل بيت أخته، فيتبعه ويسأل أخته عنه فتجيبه أنها قد أجارته! فيسألها علي بن أبي طالب مستنكرًا: وهل تجير النساء؟!
فيأتيهما صوت النبي صلى الله عليه وسلم من داخل خيمته وقد ذهبا إليه يختصمان قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ!
وقد درج الفقهاء بعدها على أنَّ للمرأة حق منح اللجوء السياسي للمحارب (وهو عدو الدولة ممَّن بين دولته ودولة المسلمين حرب).
ثلاث وعشرون سنة فقط انتقلت فيها المرأة وبشكل لا نظير له من حال إلى حال؛ فمن حال كانت محلَّ عار فتوأد وتمنع من التعليم وتُباع وتُشرى وتورَث مع متاع البيت ولا تعدُّ شيئًا، إلى حال أخرى تكون فيه المعلمة والمتعلمة، وأهلًا لحفظ السر، وتملك مالها وتتصرف فيه بحرية تامة، وتقاتل ضمن الجيش في معظم غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وتصل إلى أعلى وأرقى الحقوق (منح اللجوء السياسي)!
وعلى التوازي فقد كانت بيوتهنَّ أكثر البيوت على مرّ التاريخ الإسلامي حسن معاشرة ونجاحًا في تربية النخب، فكان الجيل الذي خرج منها خير جيل وخير قرن” خير القرون قرني” حديث شريف.