أ. شفيق مصطفى |
إنه العام 610 للميلاد في جزيرة العرب، حيث بلغ السوء في الحالة الدينية والاجتماعية مبلغه، انعكس ذلك التردي في الوضع العام على المرأة بصورة قاسية؛ فالمولودة الأنثى تدفن وهي حيَّة مخافة العار، والمرأة تُورَث كمتاع البيت، ولأن مصدر الرزق لدى الكثير من قبائل العرب قائم على الغزو والسلب، فالمرأة كذلك معرَّضة للسبي في أي لحظة، وبالتالي العيش كأَمَة تباع وتشرى في أسواق العبيد!!
في ظل تلك الظروف القاسية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجلس في غار حراء يتأمل الحال الذي وصلت إليه البشرية باحثًا عن سُبُل لإصلاحها وإخراجها من هذا الدرك الذي وصلت إليه.
أول اتصال لوَحي السماء بالأرض!
“اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
خمس آيات من سورة العلق نزلت في تلك الليلة على قلب النبي صلى الله عليه وسلم كأول اتصال من وحي السماء بالأرض منذ زمن عيسى عليه السلام اشتملت تلك الآيات على نقاط مركزية في قضية المرأة.
أهلية التكليف
من مسلمات الشريعة الإسلامية أنَّ الأصل في الخطاب القرآني توجهه بالتكليف لعموم المسلمين الرجال والنساء على حدّ سواء لا فرق بينهما، وأنَّ المرأة والرجل متساويان في التكاليف إلا ما اختص به أحد الجنسين، وهو أمر لا ينازع فيه أحد من العلماء.
وانطلاقًا من الكلمة الأولى “اقرأ” وهو فعل أمْر يُوجب القراءة على المسلم، أي هو تكليف موجه لكل المؤمنين والمؤمنات بالتعلم والقراءة.
تقرر الآية منذ أول كلمة أن المرأة أهل لتلقي خطاب التكليف وحمل الأمانة .. “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا الأحزاب 72
(حملها الإنسان) رجل وامرأة
الأصل الإنساني المتساوي
ومع بداية الآية الثانية يقرر القرآن الكريم أمرًا عجبًا في ذلك التوقيت يتناول قضية المرأة في الصميم
“ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ” فالأصل واحد رجل كان أم امرأة، لا فرق في أصل الخلق بينهما فكلاهما خلقا من مادة واحدة.
فالخطاب بـ (خَلَقَ الْإِنْسَانَ) يشمل كل إنسان (ذكر/أنثى)، (أبيض/أسود)، (عربي/غير عربي)…
فإذا كانت المرأة في اليهودية مصدر كل شر ولها طبيعة شيطانية، وإذا كانت في المسيحية مركبة من جسد إنسان وروح شيطان، وإذا كانت في الهندوسية تابعة تبعية مطلقة للرجل كأنها قطعة منه فتحرق معه حيَّة عند موته، فإن الآيات الأولى في القرآن تطلق صرخة في وجه كل تلك الترهات، فتقرر أنَّ المرأة أهلٌ للتكليف ومن أول كلمة وهي والرجل متحدان في الأصل الإنساني (أصل الخلق) وقد علَّمها الله كما علَّم الرجل (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)
على الجانب الآخر فقد تنزه الله سبحانه عن أن يكون ذكرًا أو أنثى، فسما عن تفاضلات بشريَّة قد تدعي قربًا في الجنس بين البشر كما في اليهودية التي صرَّحت بذكورية الإله رفعًا لطبيعة الرجل ليمتاز على المرأة لا بعمله ولكن بأصل خلقه، الأمر الذي نسفته عقيدة الإسلام من الجذور ومن أول يوم.
فالكل متساوٍ تجاه الله سبحانه وتعالى من حيث هو ذكر أم أنثى، ويبقى العمل هو ما يرفع أو يخفض.
وبهذا الشكل تقرر الآيات الأولى إلى جانب طبيعة هذه الرسالة الخاتمة تلك المبادئ المؤسِّسَة:
- المرأة أهلٌ للتكليف وتلقي الخطاب الإلهي.
- الأصل الإنساني المتساوي.
- عقيدة التوحيد والتساوي تجاه الخالق، فلا فضل يتعلق بالذكورة أو الأنوثة بل التفضيل للعمل الصالح.
نزلَ النبي صلى الله عليه وسلم من غاره يرجف فؤاده من ثقل هذا الكلام، متجهًا إلى بيته وزوجته خديجة رضي الله عنها، فكانت أول المؤمنين به..