انطلقت الثورة السورية كحركة مجتمعية غاضبة ترفض التسلط الذي تمارسه فئة قليلة على أكثرية السوريين. مبرر الغضب عقود من تعطيل حركة المجتمع وتغييب قواه إلى أن وصل إلى حافة الفناء حيث أصبح وجوده مهدداً بالمعنى الإنساني لا الفيزيائي للوجود، فكانت الثورة معبرة عن غريزة البقاء التي تتمتع بها المجتمعات الحية، (الموت ولا المذلة) كانت تعبيراً فطرياً عن قرارٍ بالحياة اتخذته فئة كبيرة من السوريين، حيث الحياة هنا تعني العيش بكرامة.
ونظراً لأن النظام السوري تلتقي عنده مصالح الكثير من الدول، وجد أهل الثورة أنفسهم في مواجهة العالم كله تقريباً، لم يكن مسموحاً لهذه الثورة أن تنتصر! وبالرغم من كيد أعداء الثورة وتخاذل أصدقائها وعوامل القصور الذاتية فيها والتي أفرزتها عقود من تقييد المجتمع وإطلاق آليات النخر في قيمه وأخلاقه إلا أن الثورة كحركة مجتمعية وليست كحراك عسكري أو سياسي استمرت وحافظت على زخمها وشعاراتها الأولى فما زال مئات ألوف السوريين يتوقون إلى الحرية والكرامة ويعتقدون أنها ممكنة، والإنجاز الأكبر أن هذا التوق لم يعد رغبة مكبوتة في النفوس، ولا كلاماً على الألسنة، بل يعبر عن نفسه بمئات المبادرات والأعمال الجماعية التي تغطي جوانب اهتمامات المجتمع كلها تقريباً، التعليمية والطبية والإعلامية والحقوقية والإغاثية والبحثية والفكرية والسياسية وما هو متعلق بالإدارة المدنية وغيرها، وهي أعمال متفاوتة في أحجامها ومأسستها لكنها تظهر كيف تحول المجتمع الذي كان مسحوقاً تحت قبضة الأسد إلى خلية نحل تضج بالحياة.
تدخل القضية السورية اليوم في مرحلة (مبازرة) إقليمية ودولية، تراعي فيها الدول مصالحها دون اعتبار لمصلحة السوريين وحقوقهم، هذا ليس جديداً على السوريين، فالسلطة التي ثاروا عليها كانت على الدوام تمثل مصالح تلك الدول لا مصالحهم، الجديد هنا هو أن المجتمع السوري الذي كان غائباً أصبح حاضراً، حاضراً بشبابه وشاباته الذين ذاقوا طعم الحرية فما عادوا يطيقون العيش كآبائهم، حاضراً بمؤسساته ومبادراته وفرق عمله في الداخل والخارج. هذا المجتمع يتعلم من أخطائه ويراكم تجاربه ويهيئ البيئة المناسبة لظهور تعبيرات سياسية أكثر خبرة وتطوراً مما ظهر على الساحة السورية في السنوات السبع الماضية.
لم ينتبه بشار وهو يهدم المعبد على رؤوسنا باستجلاب قوى الشر لتقمع ثورتنا وتحتل أرضنا أنه يهدم المعبد فوق رأسه أيضاً وها هو ينتظر مصيره بعد أن تنتهي حاجة حلفائه إليه. أما نحن أهل الثورة فندرك أن منعطفات السياسة وتعرجاتها وتجاذباتها شئ، ودربنا المستقيم باتجاه دولة العدل والقانون والكرامة شئ آخر.
تستطيع الدول أن تجمع مجموعة من السوريين في أي مكان وأن تجبرهم على توقيع أي وثيقة، لكن لا أحد يستطيع إقناعنا بالعودة إلى الدولة الأمنية، لا أحد يستطيع منعنا من القول إن بشار الأسد مجرم حرب مكانه المحاكم لا سدة الرئاسة أو الترشح للرئاسة، لا أحد يستطيع منعنا من ممارسة حريتنا في الهامش الذي انتزعناه بدمائنا رغماً عن العالم كله وسنظل نؤرق العالم بتمسكنا بهذه الحرية ونضعه أمام مسؤولياته الأخلاقية التي يحاول التنصل منها.
ولمن يمثلون الثورة سياسياً نقول: ناوروا كما تشاءون ولكن لا ترضوا بأي تسوية ليس فيها الحد الأدنى من العدالة وهو ألا يستمر مجرمو الحرب في مناصبهم. المطلوب اليوم من شباب الثورة وشاباتها الذين ما زالوا يؤمنون بعدالة قضيتهم في الداخل والخارج أن يتواصلوا أكثر وأن يشبكوا فيما بينهم وينتظموا في أطر أوسع ليكون صوتهم أعلى، في ظل التراجع العسكري والتعثر السياسي يجب أن نعزز رد الثورة إلى المجتمع، إلى حيث خرجت أول مرة.