بعد ما يزيد عن ست سنوات من الثورة في سورية يلفت انتباهنا حجم المعونات (الإنسانية) الكبيرة التي تُقَدّم لنا من جميع الدول، فهي تكلف المليارات سنوياً، ومخصصة كي يستفيد منها الملايين من المتضررين من الحرب.
لكن هل حقاً تهدف هذه المعونات لمساعدتنا على تجاوز آثار الحرب والنهوض بعدها بمجتمعنا وبلادنا؟ أم أن لهذه المعونات أهدافاً أخرى بعيدة عن الشعارات البرّاقة من إنقاذ الأطفال وحماية المرأة وتشجيعها؟
قبل أن نتعرض لتجربتنا في سورية يمكننا استعراض تجارب دول كثيرة انصبّت عليها المعونات لسنين كثيرة، ولكن ماذا كانت النتيجة؟
فلنبدأ بباكستان التي تلقت معونات مالية من الولايات المتحدة تقدر بستة مليارات ونصف ما بين عام 2001 و2008 والهدف المعلن هو النهوض بباكستان، والهدف المتفق عليه هو محاربة حركة طالبان في باكستان، لكن الحقيقة أنه لم يتحقق لا الهدف المعلن ولا المتفق عليه، ففيما وصل إلى الجيش الباكستاني من المساعدات المالية بلغ نحو خمسمائة مليون دولار لم يصل إلى الشعب منها شيء، ولم يجرِ أي تحقيق في ذلك، ولم تبالِ الولايات المتحدة بأموالها المنهوبة، بل واستمرت المعونات بالتدفق إلى باكستان.
وفي كينيا اكتشف الصحفي جونكي تونجي الذي عينه الرئيس مديراً لهيئة مكافحة الفساد، طوفاناً من ملفات الفساد التي كانت تغمر الحكومة الكينية، فجمع تلك الملفات ووثّق الأدلة القاطعة عليها وسافر بها إلى بريطانيا وعرضها على الصحافة، إلا أنَّ صندوق النقد الدولي لم يغير شيئاً في سياسة المساعدات إلى هذا البلد واستمرت المعونات على حالها دون تغيير.
كما نرى حالة مصر التي بدأت المعونات الأمريكية تصلها منذ ثورة يونيو سنة 1952 ووصلت ذروتها بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد، حيث تدفع الولايات المتحدة إلى مصر حوالي ثلاثة مليارات سنوياً ما بين معونات عسكرية ومدنية، لكن النتيجة كانت عكسية، فكلما زادت المعونة الأمريكية زاد تدهور الاقتصاد المصري وازدادت مشكلات التنمية في مصر، ووصلنا بعد نحو أربعين سنة من المعونات المكثفة بمئات المليارات إلى وضع تعاني فيه مصر بشدة من البطالة والتزايد السكاني وندرة السكن وسوء التعليم والعنوسة وغيرها من الأزمات المتنوعة.
وغير هذا الكثير من الحالات التي تدفقت فيها المعونات على بعض الدول ثم نُهِبَت هذه المعونات بعلم الدول المانحة ودون اعتراضها. لكن لماذا تقبل هذه الدول بهدر أموالها وإنفاقها إلى غير ما تهدف إليه؛ الإجابة ببساطة هي أن هذه الأموال تهدف في الحقيقة إلى كسب الطبقة الحاكمة في هذه الدول، وهم قلة من المنتفعين والمقربين من النظام الحاكم من المسؤولين ورجال الأعمال والمشرّعين والسياسيين وغيرهم ممن يمكن لهذه الدول المانحة تمرير سياساتها في بلدانهم من خلالهم.
ومن الأمثلة القريبة على هذا عشرات المليارات التي قدمتها المملكة العربية السعودية لمصر كمعونات للحكومة المصرية والشعب المصري، لكن الحقيقة أنَّ هذا الأخير لم يصله شيء ولم يسأله أحد عن رأيه في تسليم جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية، فلم تكن هذه الأخيرة مهتمة بموقف الشعب من قرار تسليم الجزيرتين، وإنما كان المهم هو قرار الرئيس والمقربون منه وهم الذين قبضوا الأموال واستفادوا منها حقاً.
وكذلك نرى الدول العربية التي حدثت فيها ثورات مثل تونس ومصر وليبيا كيف عادت إلى حكم تلك الطبقة من المنتفعين بالمعونات الخارجية من سياسيين ورجال أعمال وأساتذة جامعيين وغيرهم ممن ضخت الدول المانحة الملايين في جيوبهم وهي تدعي زوراً أنها تقدمها لشعوب هذه الدول لجعلها ديمقراطية.
ونرى في سورية أثناء الثورة كيف تنفق الأموال بإسراف ودون رقابة حقيقية، وكيف تشكّل هذه الأموال فروقات طبقية في المجتمع من خلال الفروقات الشاسعة في رواتب موظفي المنظمات الإغاثية، (فضلاً عن الموظفين الأجانب الذين يتقاضون رواتب كبيرة جداً)، وكيف لا تراعي هذه الأموال أولويات الشعب في هذه المرحلة، أفلا تسعى هذه الأموال إلى تشكيل طبقة من قلة من السوريين ليكونوا نواة لمشاريع سياسية تمرر من خلالها الدول المانحة سياساتها في هذا البلد؟!
في الختام أقول: لا توجد دولة واحدة استفادت حقاً من أموال المساعدات، وإنما كانت هذه المساعدات لعنة على الشعوب وجلبت عليها المصائب.