قبل ألف وخمسمئة سنة، لم يكن ثمَّة هجرة بعد، كان كل شيءٍ يسيرُ وفق مقتضيات الواقع الباردة، حيث تسود أعراف القويّ، ويعيش الضعفاء على هامش الحياة، تُنهب الأموال، وتُسبى النساء، وتُوأد البنات، وتُستباح حريّة الناس وأموالهم، وأعراضهم، … لا عدالة تنصفهم، ولا حقّ لهم أصلاً ليطالبوا به، كان العالم يُحكم بتلك الأعراف كقوانينَ عصيّةٍ على التغيير، يقبلها الجميع، باستسلام وجشع وظلم.
كانت شبيهة جداً بحمقِ ما نمرُّ به اليوم في هذا العالم المتحضر، حيث تحكم مصالحُ الأقوياء واتباعهم كلّ شيء، ويَسُودُ الظلم والقتل والجريمة، وانتهاك حقوق الناس.
لم يكن إجراءُ التغيير أمراً سهلاً، لقد كان مليئاً بالعذابات والمعاناة، والتهجير المرير عن الأهل والديار، … لقد اُجبر النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه على ترك أرضهم، من أجل حماية الرسالة التي يحملونها، هاجروا والدموع تملأ المآقي، والدماء تغلي في الصدور، لكن الظلم كان أقوى، والحقّ لم يستوِ على سوقه بعد، ليكون قادراً على المواجهة.
كانت الهجرة مليئةً بالألم والعزيمة، لقد وضع الصحابة نصب أعينهم شوقهم لوطنهم، وواجبهم تجاه رسالتهم، فأوقدوا نار الاجتهاد والعمل، ووصلوا الليل بالنهار، لتصبح المدينة المنورة أرض جهاد ودعوة، لا أرض عيش ورخاء فقط.
لم يكن هروباً من الواجب، بل كان إعداداً من أجل القيام به، لم يكن تنازلاً عن الحق، وإنَّما شحذاً للسيف الذي سيضرب بالحق، لم يكن دموعاً على من ترجلوا على الطريق الطويل، والذي بلغ 20 سنة تقريباً، بل كان إصراراً على الوفاء بحق دمائهم، وما ماتوا من أجله.
لقد هُجِّر السوريون في حكايةٍ أخرى، .. هُجروا بعد أن غمرت الدماء المسفوكة على جدران مُدنهم جميع أحلامهم، وطريقهم إلى حيث المدينة التي يشحذون بها سيف حقهم، ليحملوه بعزيمة ثأرهم ورسالتهم وشغفهم لحريتهم المسلوبة، ويعودا فاتحين كما فعلها أجدادهم من قبل.
سترون أنَّ الأرض مليئة بالمنافقين والمرجفين، سيطول عليكم الأمد، ستتعبكم التفاصيل، سيؤرقكم الصلح، وسيؤلمكم الفقد الذي لن يتوقف، .. وسيثبِّطكم من لا يؤمنون بأحلامكم وحقكم العصي على الخذلان، ولكنَّكم ستنصرون، فكونوا على قدر الأمانة وتحلّوا بالصبر، وشدّوا على أيدي بعضكم بالعزيمة .. فطريق الفتح قد استقام، فلا يغلبنَّكم عليه اليأس، .. فلا الهزيمة قائمة، ولا القدر يعاند.
ولكنَّكم تستعجلون …
المدير العام | أحمد وديع العبسي