سلوى عبدالرحمن |
يستلقي جاد على أحد الأسرة في مشفى الزراعة في مدينة إدلب ووجهه مصفر وعيناه شاخصتان وأطرافه متشنجة ويعاني من ضيق في التنفس، بينما يحاول الأطباء إنقاذ حياته من محاولة انتحار بإعطائه الأدوية المناسبة؛ لأنه إثر تناول حبوبًا مهدئة للمرة الثانية خلال العام الحالي، في حين تقف والدته مرتبكة بجانب بعض أصدقائه وهي تنظر إليه وتدعو له بالشفاء.
(جاد) 16 عامًا نازح من حلب يعاني من اكتئاب حاد حسب تشخيص أحد الأطباء النفسيين نتيجة تعرضه لصدمات متعددة خلال الحرب جراء مشاهد الموت والأشلاء والرعب والجوع، وكلها تركت أثرًا نفسيًا مؤلمًا في مخيلته ليجد نفسه وحيدًا، فلا أعمام ولا أخوال بقربه منذ وفاة والده، إضافة إلى أنه لم يتمكن من متابعة دراسته رغم محاولات عدة للعمل في مجالات مختلفة، إلا أنه لم ينجح في أي منها بسبب تدهور صحته النفسية والجسدية لتبقى والدته هي المعيلة الوحيدة لأولادها.
تقول (مروة) والدة جاد: “بعد أشهر من وفاة زوجي تحول جاد إلى شخص منعزل في معظم الأحيان ولا يثق بأحد، متخبط لا هدف له في الحياة، دائم القلق والتوتر بدون أي سبب، يشتكي من ضيق في التنفس وتنميل في أطرافه، وقد اضطر أحيانًا لإسعافه إلى المشفى بسبب التشنجات التي تصيبه، لقد عجز الأطباء عن مداواته!”
لم يكن (عبد الله) 14 عامًا من مدينة إدلب بأفضل حال من (جاد) فهو الآخر فقد أخاه خلال الحرب، والأخ الآخر مسافر إلى تركيا للعمل، أما والده فلا عمل له ويعيش مع أسرته في فقر شديد يقول: “تصرُ والدتي على متابعة دراستي في الشهادة الإعدادية بدون دورات تقوية، بينما يلتحق زملائي بدورات في كافة المواد، تمر عليّ ساعات أشعر فيها بالاختناق، جميع زملائي معهم جوالات ويأخذون مصروفًا يوميًا بقدر مصروف عائلتي لشهر كامل. أشعر في مرات كثيرة بالإحراج أمامهم، حاولت أكثر من مرة أن أقطع شرياني بشفرة حلاقة لكنني أتذكر عقاب الله فأتوقف وأكتفي ببعض التشطيب على ساعدي”.
أظهر تقرير لجنة الأمم المتحدة الخاص بحقوق الإنسان أن الأطفال الذين يكونون في دوامة أحداث دموية تبقى ذكريات تلك الأحداث معهم وتسبب لهم كوابيس شديدة وتتداخل مع مجريات حياتهم، كأنها تحدث الآن، إضافة إلى صعوبة في التركيز والاكتئاب والشعور باليأس بشأن المستقبل.
فـ(جاد) مثلًا يقول لوالدته بشكل مستمر إنه يتبادل الأحاديث مع والده (المتوفى) في المساء، فيروي لها كيف لعب أبوه معه وشرب الشاي ثم غادر، ويؤكد لوالدته ذلك بقوله: “انظري إلى كأسَي الشاي بجانبي” بحسب قول والدته، وتضيف: “حين أقول له إن هذه القصة مسخرة، وكفاك ولدنة ومزاحًا، يجيبني: اذهبي وأحضري لي أبي!”.
يضع فقدان الأب الطفلَ تحت ضغط عصبي متواصل، ممَّا يحدث تغييرًا في كيمياء المخ واضطرابًا في الهرمونات حسب أخصائيين في الأمراض النفسية.
يعاني الشمال السوري من قلة المراكز المختصة بالأمراض النفسية، وعدم الاهتمام بهذا الجانب من قبل المنظمات للمراهقين، والمبرر بأن أصحاب الإعاقات الجسدية التي تجاوزت المليون ونصف شخص لهم الأولوية، والمنظمات تركز في برامجها على تقديم الدعم النفسي لأطفال المدارس في الأعياد عن طريق حفلات وألعاب وكله للأطفال فقط.
تجدر الإشارة إلى أن الانتحار هو السبب الثاني عالمياً للوفاة في الفئة العمرية بين 15 و29 سنة، حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية، حيث يكون هذا الوقت من حياتهم من أكثر المراحل التي يمرون فيها بالعديد من التغيرات الجسدية والعاطفية، وتشير ذات الإحصائيات إلى أن أكثر من 800 ألف شخص يموتون منتحرين كل عام، بمعدل شخص واحد كل 40 ثانية.
من المؤكد أن زوال أسباب الصدمات النفسية سيخفف من أعراض الاضطرابات النفسية التي من الممكن أن تؤدي إلى العدوانية أو الاكتئاب أو الجنون أو صعوبة في التعلم أو الانتحار أو….إلخ، في حال عدم متابعتها وإيجاد علاج جذري لها وهو إنهاء الحرب.