بين ليلة وضحاها، وجد السوريون أنفسهم أمام حقيقة مرَّة لو قُصّت عليهم ولم تكن ماثلة أمامهم، لكانت في نظر الكثيرين منهم خيالا أقرب منها إلى الحقيقة، فعصابات الأسد المحتلة ويدعمها الاحتلال الروسي الايراني قد سيطرت على مساحات شاسعة من سوريا، وعاثت في الأرض فسادا، فمن الذبح والاغتصاب وسبي واستعباد النساء والسلب والنهب، إلى تفجير البيوت وصولاً إلى التهجير الجماعي بنزوح مئات الآلاف من المواطنين من محافظات حمص وحلب وإدلب ودرعا وغيرها من المحافظات السورية الجريحة، فالشيعة من الأفغان والإيرانيين وحزب الله والأكراد وغيرها، قد نالوا القسط الأوفر من هذا التهجير والنزوح، والقتل على الهوية، وتحولت مناطقهم إلى ساحات للمعارك.
* رحلة النزوح … مأساة ما بعدها مأساة
من يلتقي بالنازحين ويستمع إلى قصص نزوحهم، لا شكَّ أنَّه سيصاب بالذهول؛ لعظيم معاناتهم ومأساتهم، فلنا أن نتصور كيف أنَّ الناس خرجوا من مناطقهم وكثير منهم لا يعلم عن حال باقي أفراد عائلته، لا يعلم أين هم وما هي وجهتهم؟! والبعض الآخر من لديه معاق أو مريض أو مسن فاضطروا إلى الهروب وتركه في الدار أو على طريق الهروب؛ بعد أن داهمهم الخطر، بل إنَّ البعض تركوا بعض إفراد أسرهم حينما أعياهم التعب والجوع والعطش ولم يكن لهم وسيلة لحملهم، فالكثير من الناس قد نزحوا هاربين سيرا على أقدامهم، ومنهم من لم يستطع دفن ذويهم حينما قتلوا أمامهم، أو ماتوا من الخوف أو إعياء الهرب، ولنا أن نتصور ما هو شعور الأسرة بجميع أفرادها وهي تترك أحد أفرادها ميتاً بلا دفن في دارها أو على قارعة الطريق، والأصعب منه ذاك، الشعور الذي ولا شك أنَّه سيقضي على صاحبه بعد فترة حينما يتركون ذويهم من المسنين أو المرضى أو الذين أعياهم التعب على قارعة الطريق ليستقبلوا الموت بلا معين.. فعلا إنَّها مأساة ما بعدها مأساة، ولا أدري إن كان بإمكاننا أن نستشعر بوالدين تغتصب ابنتهما أمامهما أو تؤخذ من بين أيديهما، أو نستشعر بأطفالٍ يذبح والدهم أمام أعينهم، وينتهك عرض والدتهم، ويسبون معها… وغيرها كثير.
* النازحون في المخيمات
وفي مناطق النزوح تبدأ معاناة أخرى للنازحين أولها: أماكن سكنهم؛ فمنهم من سكن المخيمات، ومنهم من سكن خربة قديمة، والبعض الآخر سكن أبنية قيد الإنشاء، ومنهم من سكن المدارس، والبعض الآخر حصل على وضع أفضل الى حد ما؛ ورغم تعدد شكل مساكن النازحين إلا أنَّها تشترك في سمات عامة تشملها جميعا؛ ففي الظروف المناخية القاسية حيث الحر الشديد؛ فإنَّ هذه المساكن لا تلبي أدنى متطلبات الحماية من الحر، كما قد لا تتوفر في بعضها أي خدمات صحية كافية أو مناسبة.
* المشاكل الصحية
إنَّ الأماكن الحالية التي يسكنها النازحون، وبسبب عدم وجود تناسب بين مساحة المكان وعدد العوائل، فإنَّ احتمال ظهور مشاكل صحية يكون كبيراً، كما إنَّ الازدحام بالأساس يساهم وبسهولة في انتقال وتفشي الأمراض السارية، وهنا على الدوائر الصحية في عموم المناطق المحررة في سوريا، استحداث وحدة عمليات صحية خاصة بالنازحين في كل منطقة موجودين فيها، وتركز على الأمراض التي يمكن أن تنشأ في أوساطهم، وتحويل المخصصات الصحية للمناطق التي نزحوا منها إلى المناطق التي نزحوا إليها من لقاحات و أدوية، ونخصّ بالذكر الأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة، مثل السكري وضغط الدم وغيرها. وكما تمَّ دمج المنتسبين في الدوائر الصحية في المناطق الساخنة، فإنَّه بالإمكان الاستفادة من هذه الكفاءات في مراكز صحية قريبة من مساكن النازحين، وعقد الندوات لزيادة الوعي الصحي والاستفادة من وسائل الإعلام، وطبع المنشورات في بث هذا الوعي
* الآثار النفسية
إنَّ مشاهد الدماء والذبح والموت والاغتصاب والدمار وأصوات إطلاق النار ومحنة الهرب وفقد الأحبة، لها آثار سلبية عميقة في نفوس النازحين عامة وعلى النساء والأطفال خاصة، إضافة إلى أنَّ ظروف حياة النزوح الجديدة هي بحدِّ ذاتها بركان يغلي ويولّد حمماً لأمراض نفسية قاسية. وهذا يتطلب تشكيلاً فورياً لوحدات العلاج النفسي تقوم بمهمة المباشرة الفورية لمتابعة هذه الحالات قبل استفحالها. والتي ربما تحتاج لسنوات حتى يتعافى المصاب منها.
* الآثار الاقتصادية
إنَّ النزوح وما رافقه من سيطرة النظام المجرم والاحتلال الروسي على مناطق النازحين كان له آثار اقتصادية وخيمة على النازحين أنفسهم وعلى سكان المناطق التي نزحوا إليها. فالمرتزقة والشبيحة جرَّدوا النازحين من ممتلكاتهم، ودمروا عددا كبيرا من منازلهم، وسلبوا ونهبوا، لذا فإنهم يفتقدون تماماً لفرص عملهم الحر، ووجدت الغالبية العظمى من النازحين أنفسهم في مناطق النزوح بلا أدنى مردود مالي.
وكما لا يجهل المسؤولون في المحافظات التي تستضيف النازحين، أنَّ مشاكل البطالة والغلاء في المواد الأساسية والسكن من أبرز سمات الوضع الاقتصادي والمعيشي في سوريا، ووجود النازحين مع حاجتهم لفرص العمل والدخل البسيط لسد حاجاتهم يتطلب مجهودا كبيرا لإيجاد حلول منهجية وخطط متكاملة، لتوفير فرص عمل لا تؤثر على الوضع المعيشي الصعب لدى السكان المحليين، لاسيما فيما يتعلق بفرص العمل وقيمته، وأسعار السكن والايجار.
* الآثار الثقافية
إنَّ اختلاط العوائل وبخاصة المراهقين والأطفال في أبنية غير معدة للسكن وبأعداد كبيرة جداً، يؤدي إلى انتشار بعض العادات السلبية بين المراهقين وكذا الأطفال. هذا فضلاً عن ظهور مشاكل ومشادات بين العوائل المختلفة الطباع والعادات، وهنا يتوجب على أولياء الأمور الالتفات إلى ذلك، والعمل على حماية أطفالهم من اكتساب هذه العادات السيئة، من خلال برنامج مكثف لأطفالهم وللأطفال الآخرين الساكنين معهم، لغرس ثقافة الاحترام والتعاون والمحبة والتعايش… وبهذا نحول أزمة النزوح من كونها أحد عوامل التدهور الثقافي إلى عامل للبناء الثقافي؛ وذلك بتحويل المساكن المزدحمة إلى مراكز ثقافية تشارك فيها الأسر، وتتعاون فيما بينها لغرس الثقافة السليمة في نفوس الأبناء، ولتوفير الأجواء اللازمة لإنجاح التربية والتعليم والتأهيل خلال فترة النزوح يجب فتح رياض للأطفال، وتخصيص عدد من المباني، أو وضع الكرفانات لهذا الشأن، والاستفادة من موظفي رياض الأطفال النازحين، أو التعاقد مع نازحين أو محليين، وتوفير وسائل توعية للعوائل وبخاصة أولياء الأمور عن كيفية التعامل مع الوضع الجديد. ويجب ألَّا يغيب دور منظمات المجتمع المدني المهتمة بشؤون الطفولة والمراهقين والثقافة في تحقيق هذا الهدف، وينبغي بالحوزة العلمية أن تتحمل مسؤوليتها الشرعية في هذا الاتجاه، بفتح دورات تعليم الأحكام ونشر الثقافة الدينية والقرآنية والأخلاقية، وخاصة إذا ما علمنا أنَّ معظم النازحين قد تمركزوا في محافظات تنشط فيها الحوزة العلمية.
* الآثار التعليمية
كما هو معلوم أن المناطق السورية كافة تعاني من تردي خدماتها التعليمية بشكل كبير، فعدد طلاب الصف الواحد قد بلغ أرقاما قياسية، وإنَّ كثيراً من المدارس خفّضت ساعات دوامها؛ لتشارك أكثر من مدرسة في بناء واحد، والبعض الآخر طالته صفقات الفساد؛ فهدِّم ولم يعمّر، إضافة إلى تردّي خدماتها الصحية بشكل كبير، والبعض الآخر سكنه النازحون، و الآخر تعرض للقصف، وهذه المؤسسة اليوم باتت أمام تحدٍ جديد وكبير ألا وهو الطلبة النازحون. فهؤلاء الطلبة قد تركوا مدارسهم، وثمَّة منهم من لديه امتحانات للدور الثاني، ومنهم لم يبق على تخرجه من الكلية إلا امتحانات الدور الثاني، وقد نزح وترك جامعته؛ فصار مستقبله في مهب الريح. فصار من المهم وضع حلول سريعة لهم، خاصة ونحن على أبواب امتحانات الدور الثاني، وبداية العام الدراسي الجديد، ولعلَّ ما يمكن أن نسميه حلاً هو السماح للطلبة في المدارس والجامعات بأداء امتحانات الدور الثاني في مناطق نزوحهم، واستدعاء موظفي التربية والتعليم كافة للعمل في غرفة عمليات خاصة بالطلبة النازحين في مناطق النزوح يضاف إليهم عدد من موظفي التربية والتعليم في مناطق النزوح، ولعلَّ مشكلة الطلبة الجامعيين قد يمكن -بطريق او آخر-استيعاب نسبة كبيرة منها، إلا أنَّ الأمر الصعب هو استيعاب مشكلة طلبة الثانويات والابتدائيات، وهنا لابدَّ أن تقوم ما يمكن تسميته «غرفة العمليات المشكلة من الإداريين التربويين النازحين والمحليين»، بدعوة المعلمين والمدرسين النازحين، والتعاقد مع المحليين غير المعينين إذا تطلب الأمر، والاستفادة من الأبنية المدرسية بدوام ليلي، وتوفير سيارات لنقلهم إلى هذه المدارس، وهي فعلا متوفرة، وحل هذه المشكلة بالكامل
* التحديات الأمنية
تواجه الجهات الأمنية في المناطق المنزوح إليها تحديات أمنية؛ وذلك لاستغلال الشبيحة واللصوص موجة النزوح والتخفّي بين النازحين؛ لاختراق هذه المناطق، وهذا يتطلب من الجهات الأمنية القيام ببعض التدابير، والتي قد يكون منها: إصدار بطاقة خاصة لجميع النازحين حتى الأطفال منهم تكون مرجعاً لإثبات الشخصية، ومعرفة مكان استقرارهم الجديد، و تشتمل على بعض معلومات هوية الأحوال المدنية، ومعلومات بطاقة السكن الأصلية للنازحين، ومعلومات تماثلها للسكن الجديد وتحمل مع هوية الأحوال المدنية لجميع النازحين، وفتح شبكة معلومات موحدة ومترابطة في جميع الأعراق خاصة بهذه البطاقة، ومن خلالها يمكن معرفة التحركات المحتملة للشبيحة المتخفين بين الأخوة النازحين، ودعوة المختارين النازحين، والمسؤولين الأمنيين المحليين في المناطق المنزوح منها، وكذا أعضاء المجالس المحليين النازحين، والتواصل مع جميع هؤلاء الكترونياً للاستفادة من المعلومات عن الشخصيات المشبوهة في مناطقهم الأصلية. ومن المهم تأسيس مجالس محلية جديدة للنازحين وتحديد مختارين لهم للمتابعة الأمنية، وتسهيل توفير الأمن لهم، وتسهيل أمورهم المتعلقة بالجانب الأمني، كمعرفة مصير المفقودين منهم، وتحصيل أوراقهم الثبوتية المفقودة، واستصدار غيرها، وغيرها من الأمور المرتبطة بالموافقات الامنية.
* الآثار الاجتماعية
وإذا كانت الآثار النفسية والاقتصادية والأمنية المترتبة على النزوح وخيمة، فإنَّ آثارها الاجتماعية هي الاشد خطورة، فما جرى مؤخراً في سوريا قد مزق النسيج الاجتماعي السوري بشكل خطير جداً، فمعلوم أنَّ النازحين إنَّما نزحوا هرباً من قتل عصابات الأسد لهم، ، والطائفية والبعثية والانتهازية، ومعلوم أنَّ هؤلاء إنَّما ينتمون بغالبيتهم العظمى إن لم يكونوا جميعهم، إلى الطائفة العلوية والشيعية الرافضة والطائفيين والبعثيين والانتهازيين، والسؤال: كيف يمكن لهؤلاء النازحين بعد عودتهم أن يتعايشوا مع من هربوا منهم، بل شاركوا في قتلهم واستباحوا حرماتهم و أعراضهم و سلبوا ممتلكاتهم؟! الحقيقة أنَّ هذا الأمر صعب للغاية قد يحتاج إلى فترة طويلة لعلاجه، وإنَّ المشكلة الاجتماعية الأكبر في تزاحم الأعداد الكبيرة من العوائل في مكان واحد وهي عادةً عبارة عن قاعات كبيرة، لا يفصل بين عائلة وأخرى سوى قطعة من القماش أو «بطانية»..! وهذا بحد ذاته يمثل ثغرة ربما تتوسع لتخلق أزمات ومشاكل أسرية صعبة الحل، ففي معظم أماكن سكن النازحين، لا وجود لخصوصية رجل ولا لامرأة ولا لطفل أو شيخ، ولا لصحيح أو سقيم…!
وباختصار فإنَّ أزمة السكن أمام أنظار المسؤولين في جميع المدن التي تستضيف الإخوة النازحين، ولابدَّ من وجود حلول سريعة وملائمة لتفادي ظهور مشاكل تزيد هموم النازحين على ما هم عليه.
* خطوات اساسية على طريق الحل
1-الخطوة الاساسية والاهم على طريق الحل هي القضاء على سبب النزوح، ألا وهو القضاء على هذا النظام الاسدي الكافر، وطرد عناصر حزب الله والإيرانيين وروسيا من المدن والمناطق المحتلة، وهو ليس بالأمر العسير، فبوجود القدرات المالية والعسكرية الهائلة لدى الثوار الصادقين ويعاضدها الدعم الدولي والتفاعل الجماهيري في الداخل. وما يضمن نجاح هذه، مشاركة الشباب والرجال الاشداء من الاخوة النازحين في تطهير مناطقهم. مما يتطلب تشكيل قوات خاصة من هؤلاء بعد تنظيمهم وتأهيلهم في مجاميع عسكرية، ثم يتم تدريبهم وتسليحهم على مستوى عالٍ.
ومن جانب آخر فان هؤلاء المتطوعين سيحصلون على رواتبهم أسوة بالمنتسبين في باقي الفصائل الثورية.
2-تشكيل غرفة ازمة كبرى تتشكل من المؤسسة الدينية، ومجالس المدن واقرى والمحافظات والحكومات المحلية، ومنظمات المجتمع المدني. وتقسم هذه الغرفة الكبرى الى غرف فرعية في المحافظات وتقسم كل منها الى اقسام: اقتصادية وعسكرية وامنية واجتماعية وتعليمية وثقافية ونفسية وادارية.
3-تخصيص لجنة اعلامية خاصة للنازحين، وموقع الكتروني، يتولى الاهتمام بشؤون النازحين الخدمية، وتهتم بالوعي الثقافي والامني، وعلاج المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وتكون المرجع لهم في تلقي التبليغات والتعليمات واستقبال الشكوى، وكل ما يتعلق بشؤونهم.
4-تشكيل هيئة من النازحين تتولى مسؤولية الضغط على المجتمع الدولي على حد سواء؛ لوضع حد لمعاناة النازحين، ورفع شكوى قضائية في المحاكم المحلية والدولية ضد المتورطين في دعم عصابات الأسد من الداخل والخارج ومحاسبة المقصرين.
المرشد النفسي محمد رامز خوجة