جاد الغيث |
كنت أطمئن على أصدقائي الذين أُصيبوا قبل يومين في القصف الوحشي الروسي، خمسة منهم أُصيبوا بإصابات خفيفة، وواحد منهم صار شهيدًا جميلاً، كان يحمل الكاميرا، ويصور الدمار والدم البريء الطاهر، ثم تحولت عدسته إلى راوٍ تروي حكايات جميلة لوجوه تنعم بالجنة، أدرك لحظتها أنه صار شهيدًا بعيدًا، وكتبوا اسمه على الصفحات الزرقاء (أنس دياب) شهيدًا جميلاً.
هكذا يموت عندنا البشر ببساطة شديدة، في أقل من لحظة، الموت هنا أسهل بكثير من التفكير في كلمات العزاء التي ينبغي أن تقولها أو تكتبها للتعزية بأصدقائك.
القتل هنا تُهديه لنا طائرة روسية، وجندي قذر يلتقط صورة من الأعلى تُظهر حذاءه العسكري وبقعة دمار هائلة.
أصدقائي الجرحى هم بخير الآن، لقد كانوا في السوق ساعة رمي الحمم الروسية على الأبرياء في معرة النعمان.
الخوف بدأ يعتصر قلبي من مواجهة المصير نفسه، فيما لو تحول القصف إلى أريحا، مدينتي المغردة على جبل الأربعين، لم يكن خوفي على نفسي، إنما على زوجتي وابنتي اللتين أصبحتا تجزعان من أدنى صوت عنيف، ولو كان الهواء قد صفق باب الغرفة غدرًا.
كانت الساعة الثانية عشرة ظهرًا، الجو حار، أكاد أخلع جلدي، ومع أننا نعيش في الطابق الخامس وفي منطقة عالية وباردة، ولكن الحر شديد.
قلبي منكمش على بعضه كأنه برتقالة مقطوفة منذ أيام ومتروكة في حر تموز، وماذا عساي أن أصنع، اليوم لا عمل لدي، سأبقى في البيت ألاعب ابنتي، أحملهما على ظهري وأكون لهما جَملاً. فعلت ذلك مرارًا وهما تضحكان بصوت عالٍ، وتقولان معًا: “بسرعة … بسرعة يا جمل”
لم أدرِ أنها كانت آخر مرة نلعب بها تلك اللعبة في بيتنا الذي يحمل عبق ذكريات الحب والحرب، وأحلام عائلة صغيرة تحلم بما يكفي لحياة طيبة كريمة، ووطن آمن.
كنا نلعب كأننا دمى متحركة، بأصوات تشبه أصوات أفلام الكرتون، زوجتي تتابعنا بنظراتها وتضحك وهي تحفر لنا الكوسا، استعدادًا لتحضير محشي الكوسا باللبن.
صوت الطائرة الحربية الذي جاء قويًّا جدًا ومفاجئًا، أفزعنا جميعًا، جعلني أنا الجمل أسقط أرضًا، وهوت ابنتاي من على ظهري قبل دقيقة واحدة فقط من انهيار المبنى الذي نقطن فيه.
دقيقة وربما أقل أو ربما أكثر، لا أدري بالضبط، لقد ضاع إحساسي بالزمن، كل شيء حدث في غمضة عين، نزلت إلى الشارع لأرى ما يحدث حولي، ولكنني حين نظرت جيدًا بعد أن تلاشى الغبار قليلاً وجدت نفسي أمام البناء الذي أسكنه، طوابقه متراكمة فوق بعضها بعضًا، وأنا كالمجنون، كالتائه، كالملهوف، كالضائع، خُيِّل لي أنني أسبح في عالم من غبار، كأنني أعمى يرى كل شيء حوله أبيض، كأني أرى ولا أرى، أسمع ولا أفهم، أصرخ ولا أحد يسمع.
ابنتاي عالقتان بين الأنقاض، عدسة أحد المصورين اقتربت منهما أكثر، مازالتا على قيد الحياة، هناك حركة للأيدي، وصوت بكاء، ورجل ينادي لهما: “لا تتحركوا يا عمو، رح توقعوا” وأنا أصرخ قريبًا منهما عاجزًا عن الوصول إليهما.
هكذا ظهرت في الصورة التي صارت رمزًا لمجزرة أريحا، وحتى اللحظة مازلت أصرخ، تجمد الوقت عند صرختي، كل ما يعرفه العالم عني الآن أنني أحاول انتزاع ابنتي من بين الأنقاض، كيف وصلت إليهما لا أدري، لا أتذكر، لا أعرف بماذا صرخت، لا أعلم، حتى أنا لم أسمع صرختي مع أنها كانت من أعماق روحي ووجعي، صرخة مدوية، لو كان العالم يسمع لهزت صرختي جنبات الأرض، لم يسمع أحد سوى الله، الذي اختار إحدى ابنتي شهيدة، والأخرى في حالة خطرة، قد تُشفى قريبًا ونلعب معًا أنا وهي لعبة الجمل، ولكن هذه المرة في خيمة للنازحين لا أعلم مكانها.