د. وائل الشيخ أمين |
بعد خطأ طبي من الجرَّاح أودى بحياة الشاب، يخرج الجرَّاح ليغسل يديه ويُغير ملابسه ويعود إلى بيته ليُكمل حياته بشكل طبيعي مع وخزة بسيطة في الضمير سرعان ما تنسى.
يتسرع القاضي في إطلاق حكمه على المُتهم مُتوهِّماً أنَّ حدسه صحيح ولا داعي للاستغراق في القضية، وبعد بضعة سنوات من سجن المتهم تظهر براءته فيعود القاضي إلى بيته بعد سماعه الخبر ويُكمل حياته بشكل طبيعي، ويقول لنفسه: كل البشر يخطئون، ويبدو أنني تسرعت قليلاً، لا ضير حكمٌ جائر بين أحكام عادلة كثيرة في مسيرتي المهنية.
يذهب القائد العسكري إلى معركته ومعه ثلة من الشباب المجاهدين، ولأنه لم يخطط لمعركته بشكل جيد يستشهد بعض رجاله، ثم يعود إلى بيته ليكمل حياته بشكل طبيعي ويقول: تقبلهم الله من الشهداء، نالوا ما كانوا يريدونه!
ما الذي يحصل لأحدنا بعد أن يمتهن مهنة ما؟!
ما لاحظته أن الواحد منا عندما ينخرط في مهنته فترة من الزمن يصبح لديه تبلدٌ في الإحساس، تبلدٌ يستوجب دائماً إيقاظ الضمير واستحضار الرقابة الإلهية عليه وإلا غابت عنه إنسانيته وأصبح كائناً بلا أحاسيس!
وأعتقد أن بلادة الإحساس عند المهني مطلوبة ولا يمكن أن يستمر في عمله بدونها، لكن الكارثة عندما تستفحل هذه البلادة إلى حدٍّ كبير فلا تجعله يشعر بأخطائه أو أحياناً جرائمه.
بصفتي طبيب أسنان أعيش بشكل يومي ساعات مع الألم، فلو أنني تعاطفت مع كل مريض متألم بشكل كبير لخارت قواي النفسية وما استطعت إكمال يومي.
ومما أستغربه من نفسي أنني عندما أذهب إلى مستشفى وأرى المرضى هناك فإنني أتعاطف معهم وأشعر بألمهم أكثر ممَّا أشعر بمرضاي، وغالباً عندما أقضي يوماً في مستشفى لعيادة أحد المرضى فإنني أرجع إلى بيتي متعباً نفسياً.
تخيل طبيب أورام يعيش مع أطفال وشباب مصابين بمرض السرطان بشكل يومي ويرى آلامهم ووفاة بعضهم، كيف يستطيع أن يعيش حياةً سوية لولا تبلد أحاسيسه في مهنته.
أعتقد أن تفسير هذه الظاهرة أمران: الأول: أن كثرة التماس تفقد الإحساس.
الثاني: أن المهني ينظر إلى الطرف الآخر على أنه (حالة) أكثر من أنه (إنسان)!
فإذا أخطأ القاضي وتسبب في سجن أحدهم عشر سنوات فهو لا ينظر إلى الأمر على أنه دمر حياة هذا الشخص ودمر عائلته وتسبب بأحزان هائلة لأمه وأبيه وعائلته، لا يفكر القاضي في كل ذلك بل يرى أن الأمر مجرد حالة أخطأ في تقديرها … فقط!
يحتاج المهني أن يستحضر دائماً أن الذي أمامه إنسان وليس حالة، فإذا أخطأ فعليه أن يتحمل مسؤوليته ويصلح ما يمكن إصلاحه، وعليه أن يستحضر الرقابة الإلهية دائماً عليه، وإلا خسر إنسانيته.
كما تحتاج المجتمعات إلى رقابة من السلطة على أصحاب المهن، فلو كانت الرقابة حقيقية لتردد المهني مئة مرة قبل أن يخطئ لا لمصلحة الحالة التي بين يديه بل لمصلحته هو، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.