يوسُف القرشيّلا يختلف العالِمون على أن نفس الإنسان تنطوي على آيات كونية عجيبة, وأن من أعظم تلك الآيات عقلُه الذي به كان تمييزُه عن غيره من مخلوقات الله على هذه الأرض.تلك المكانة الرفيعة للعقل لم يكتسبها من لا شيء، وتلك هي سنَّة الحياة, إنما كانت لكونه منطلقَ الفكر ومستقرَّه, فمنطلقهُ اللاوعيُ الذي هو عبارة عن بصمات تنطبع في ذهن الإنسان للتجارب الحياتية التي يمر بها, ومستقرُّه هو الوعي الذي يلتقط الفكر ويحوّله إلى واقع حسي مُعاش؛ فالمادّة الأولية لحياة الإنسان هي فكره, ومُترجمها هو عقله, وبذلك يكون وجوده. وهذا ما أكّداه كلّ من عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث قال معبّراً عن الأول : ” العقلُ حفظ التجارب “، ورينيه ديكارت الذي أشار إلى الثاني بقوله: ” أنا أفكّر إذاً أنا موجود “.تلك البرمجة العجيبة في الذات موجودة لدى كل إنسان, ولهذا يسأل سائل: بما أن آلية التفكير واحدة لدى الجميع, فلماذا إذاً تختلف النوعيَّة من شخص لآخر؟ سؤالٌ أكثر من رائع لذا دعونا نتعرف على الإجابة.في الحقيقة الاختلاف ما بين خبز عقلي وآخر يكمن في مصدر الطحين الفكري؛ الذي هو التجارب الحياتية السابقة للإنسان, تلك التجارب التي ولتتابعها على صاحبها قد تغدو لدى عقله من مسلَّمات المنطق, وإذا باتت كذلك فإن حياته سوف تُقاد من قِبَلها.فمثلاً طفلٌ يرى في أبيه القدوة والتمكُّن العقلي ويشاهده يكذب باستمرار, هنا سوف ينطبع في لاوعي الطفل فكرة أن الكذب مرتبط بالنضج العقلي, وسوف يتَّخذ حين يكبر من الكذب ديدناً له, ولسوف يكون بقعة سوداء في صفحة المجتمع إلَّا أن يُصلَح, لكن كيف يكون صلاحُه؟ آية واحدةً تشرح كل شيء!قال تعالى: (( إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بقومٍ حتَّى يُغيِّروا ما بأنفسهمْ ))ولهذا فعلى الإنسان إذا أراد أن يكون لبنة طيّبة في سعادة الإنسانية عليه أن يبدأ بنفسه, وأن يسعى لتغيير ذاته وتنقية فكره, كي لا يكون من منافقي الإرادة, الذين يريدون ولا يسعون, وما أكثرهم هذه الأيام! وفي ذلك أقتبس قولاً لتولستوي: ” كل إنسان يفكر كيف يغير العالم لكن لا أحد يفكر كيف يغير نفسه”فهذه الذات بتعقيداتها الرفيعة لا تُعطى حقها إن لم تُشذَّب ما بين الفينة والأخرى, هذه الذات تُحتَقر إذا أُهملت ولم يعد يُنظر إليها بعين العناية, هي تُحبُّ الاهتمام, تحب أن يعترف صاحبها بأخطائه بعد التأمل، وأن يسعى لإصلاحها من خلال عيش تجارب حياتية جديدة قويمة ينبجس منها الفكر طاهراً نقياً.وأخيراً دعونا نتصوَّر مجتمعاً كل أفراده التفتوا إلى رفع مستوى كفاءتهم, كيف سيكون حال ذلك المجتمع؟ لسوف يشهد قفزة استثنائية على سلم الحياة الإنتاجية على كافة الأصعدة، تماماً كما حصل مع جيل الصحابة رضوان الله عليهم, فوقفات صادقة مع الفكر والروح نقلتهم من استباحة الدنايا إلى عظماء لا تفارق الحكمة أحوالهم.نعم, الغوص في عمق الذات هو نقاء حياتي يُخلَّص الذات من أدران الإهمال التي نفَثَها الزمن الهارم, هو يقين وجود المرء ومجهرُه للتعرُّف على الكون من حوله.