“يستحق علامات جيدة.. لقد أصبح صديقي” هذا ما وصف به ترامب أردوغان في اجتماعات الجمعية العامة أواخر العام المنصرم، لكن ما الذي تغيَّر حتى يصعِّد ضد تركيا بحربه الاقتصادية؟!
إن المتتبع للعلاقات التركية الأمريكية في العقدين الأخيرين بإمكانه أن يرصد اتساع الهوة في مسار العلاقات بين البلدين ولو بشكل بطيء بعد تبني تركيا سياسة “التوازن المرن” وصفر مشاكل في سياستها الخارجية إقليمياً ودولياً.
هذه الإستراتيجية التي هندسها الدكتور أحمد داود أوغلو وانتهجها حزب العدالة والتنمية في إدارته للدولة التركية أرَّقت دوائر القرار في واشنطن رغم حفاظ تركيا على طابعها الغربي واستمرارها في حلف الناتو.
ولعل اتباع أنقرة إستراتيجية الانعتاق من قيود التبعية العمياء لسياسات الولايات المتحدة وتحديد أهدافها مؤشر لسعيها بأن تكون في دائرة المؤثرين الفاعلين في السياسة الدولية وأن تتحرر من كونها دولة عسكرية في خدمة حلف أو أجندات تصيغها الولايات المتحدة والدول الغربية لتحقيق مصالحها.
كما أن نظرية العمق الإستراتيجي التي طرحها أوغلو وضعت رؤية سياسية مستقبلية وجديدة تجاه تركتها العثمانية (الشرق الأوسط) مما يجعلها في حالة منافسة مستقبلة مع الولايات المتحدة التي باتت تدرك أن استقلال القرار التركي يهدد سياساتها ومخططاتها في المنطقة.
كان الهدف الأمريكي بعد غزو العراق تدعيم الوجود الكردي في شماله ليكون خنجراً في الخاصرة التركية، غير أن الدبلوماسية التركية نجحت بحرف هذا المسار نحو علاقات المصالح المتبادلة وتوطيد أواصر التعاون بدل حالة الخوف والريبة السائدة في المكون الكردي المشبع بالعداء التاريخي لتركيا، بل وسَعت أنقرة لخلق توازنات داخل الإقليم لتكون صمام أمان لها عبر دعمها لتركمان العراق بالشكل الذي يدفع بالعلاقات بين ما يسمى (كردستان) وتركيا نحو التهدئة والتكامل.
غير أن الولايات المتحدة لم تتأخر بالالتفاف من بوابة الملف السوري لتحقيق أهدافها، فدعمت الأحزاب الكردية بشكل مختلف و مغاير عن أشقائها في العراق، ودفعتها لإعلان حالة العداء بشكل واضح ضد تركيا لجرها نحو المستنقع السوري الذي تعاملت تركيا معه بمنطق المطلوب والممكن وأفرغت خطط واشنطن من أحلامها التي نسجتها لها، وتحول الوجود الأمريكي إلى عبء من وجهة نظر الأمريكيين أنفسهم، واستكملت تركيا بقوتها الدبلوماسية حصار الموقف الأمريكي مع روسيا و إيران في سورية.
أما عن المحاولة الانقلابية فإن الدور الأمريكي الخفي ودوافعه مايزال في إطار التحقيقات، غير أن وجود مهندس الانقلاب غولن في الولايات المتحدة يثير الشكوك حول دورها في تلك الليلة.
إن رغبت الولايات المتحدة بمعاقبة تركيا لا يتعلق بحماية اقتصادها أو الإفراج عن القس برونسن أو غير ذلك، بل إن الأمر يعود لصعود تركيا القوي كقوة إقليمية ودولية لها وزنها (الحر والمستقل) المبني على موروثها الثقافي والحضاري في المنطقة، فهل ستواجه تركيا أزمتها بارتدادها لعمقها التاريخي أم أنها ستستمر بدبلوماسية اللعب على وتر التوازنات والمصالح المتناقضة بين أقطاب الساحة الدولية؟