غسان الجمعة |
لا يمكننا أن نعتبر المشادات الإعلامية بين منبري الإدارة التركية والأمريكية حول صفقة إس400 مجرد محاولات غربية لثني أنقرة عن إلحاق الضرر بمنظومة طيران الناتو كما تحدث القادة في الحلف مراراً بما أن المنظومة الروسية الصنع ستتعرف على أداء الطيران التركي كونه (صديق!) وفي هذه الحالة ستقرأ أداء المنظومة الجوية للناتو ذاته كون تركيا (حليف!) لذلك لابد لنا من مشاهدة الصورة كاملة باعتبارها انعطافة كبيرة في ميزان الصراع الجيوسياسي في المنطقة.
فرغم كارثية الأمر عسكرياً، إلا أن صراعاً آخر سينفجر من خلف هذه الصفقة التي تتعدى كونها عسكرية بقيمة اقتصادية تتجاوز 2 مليار دولار، فإن القراءة الأمريكية للصفقة تحمل في طياتها تحولاً جذرياً سياسياً لأحد أهم مكونات حلف الناتو وما يستتبع ذلك من تغيرات في قواعد الصراع والنفوذ في الشرق الأوسط.
الأمر الجلي الآن هو إصرار تركيا على إتمام صفقتها مع روسيا وما يقابله ذلك من تهديدات وإغراءات عسكرية وسياسية من قِبل الولايات المتحدة، غير أن الصفقة باتت المختصر الذي تريد تركيا بناء سياستيها الخارجية على منواله.
رغم أن تركيا محسوبة على المنظومة الغربية إلا أنها لم تعد تجد نفسها في هذا الخندق، وهي ليست مضطرة لذلك فعلاً بعد أن وجدت في عدوها المفروض عليها غربياً (روسيا وحلفائها) متنفساً وشريكاً سيما بعد أحداث الانقلاب الأخير، حيث وقفت الدول الحليفة متفرجة وربما بعضها كان داعمًا لضرب الجبهة الداخلية التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية.
من جانب آخر باتت محاولات الولايات المتحدة تقويض نفوذ أنقرة في المنطقة واضحة، سواء بتوجيه محور الإمارات السعودية نحو محاربة السياسة التركية أم بتعزيز القوة العسكرية للميليشيات الانفصالية في شمال سورية التي تعتبرها أنقرة إرهابية تهدد أمنها القومي التركي، بالإضافة إلى دور الولايات المتحدة في إلحاق الضرر المتعمد بالاقتصاد التركي مجموعة من الأسباب التي دفعت أنقرة للبحث عن طرف موازنة في تحالفاتها وعلاقاتها الجيوسياسية في المنطقة والعالم، لذلك لم تكرر غلطتها مع الروس كما فعلت مع الصينين عندما ألغت صفقة مع شركة لبناء نظام دفاع صاروخي بالستي في العام 2015 بعد ضغوط غربية، في حين وجدت تركيا نفسها وحيدة أمام روسيا بعد إسقاط الطائرة الروسية شمالي سورية من الشهر ذاته، و كأن شيئاً لم يحدث.
أما الوجه الآخر فهو متعلق بتنمية القدرات التركية للوصول إلى رؤية 2023 التي وضعت أهدافها لتشكل تركيا ثورة عالمية على مختلف الصعد، ولذلك تعمد أنقرة على تنويع مصادرها وتحالفاتها وعدم تركيز نقاط ضعفها على خاصرة واحد، وهو ما شجعها لإبرام الصفقة التي ستحصد منها التدريب على هذه التكنولوجيا، كما أن اتباع السياسة التركية لهذه الطريقة منع عدم تعرضها للابتزاز في الحصول على أسلحة متطورة من (حلفائها التقليدين) كما حصل مع إيران من أجل اقتناء منظومة أس300 من حليفها الروسي، بل على العكس فقد فتحت تركيا على نفسها باب تلقي العروض في سبيل إيقاف الصفقة.
لكن في عالم السياسة الاحتمالات مفتوحة على كل الخيارات، وخصوصاً أن تركيا تسير في سياستها الخارجية في كما يقال باللعب على الحبلين نحو أهداف تترصدها تركيا لدى كلا الطرفين. فهل هي جادة في تحقيق حيادتيها بين القطبين وقوتها الذاتية؟ أم أنها تسير في طريق ابتزاز حلفائها وسحبهم لمطالبها ووفقاً لشروطها بصفتها حليف حقيقي وليس تابع.