د. لؤي صافي |
احتدم الجدل في العقود الأخيرة حول تصورين متعارضين لمسألة خلق الإنسان، يستند أحدهما إلى الرواية التي حملتها الرسالات السماوية، والتي أكدت أن الوجود الإنساني على الأرض جاء بإرادة إلهية اقتضت وجوده، بينما تستند الرواية المعارضة التي تشكلت بناء على أعمال تشارلز دارون العلمية وأظهرت أن الإنسان كائن تشكل عبر التاريخ الطبيعي نتيجة لمبدأ الاصطفاء الطبيعي الذي يحكم تطور الكائنات العضوية. وانقسم المنظرون بين هاتين الروايتين إلى مؤكد لأحداهما رافض للأخرى، كما فعل الباحث التركي هارون يحيى الذي كتب العديد من الكتب التي تندد بنظرية الارتقاء الطبيعي للإنسان وتؤكد نظرية الخلق الآني.
نسعى في هذه المقالة إلى التعامل بهدوء وتأني مع هذا الجدل، والتحذير من التسرع برفض نظرية الارتقاء الطبيعي للإنسان، ليس فقط لأن البحث في كيفيات خلق الإنسان على الأرض مسألة تتطلب النظر والبحث العلمي، كما تؤكد نصوص الرسالة التي سنتعرض إلى طرف منها لاحقا، بل لأن رفضها بناء على قراءة ظاهرية للنصوص يؤدي إلى تقويض البحث العلمي الذي يهدف إلى فهم دلالات المعاني الرسالية من خلال المنهجية العلمية، وهي المنهجية التي تطورت بدء من داخل المنظومة الحضارية الإسلامية.
وننتهي بعد النظر في تفاصيل الخطاب القرآني إلى أن نظرية الارتقاء لا تتناقض بالضرورة مع سيرورة الخلق التي أشارت إليها النصوص القرآنية نفسها، وأنه بالإمكان الحديث عن فعل خلق جرى وفق سيرورة تطورية ارتقائية.
لا بأس من تثبيت نقطتين قبل الشروع في بحث تفاصيل هذا الخلاف. النقطة الثابتة الأولى أن أحدا من المتخاصمين حول جدلية الخلق والارتقاء لم يشهد عمليا سيرورة خلق الإنسان، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يجزم بتفاصيل حدوثها، قبل النظر والبحث في كيفية بدء خلق الإنسان.
إما النقطة الثابتة الثانية أن الخلاف يجرى حول روايتين مهمتين حول أصول الحياة البشرية: رواية الخلق ورواية الارتقاء.
تلقى رواية الارتقاء قبولا واسعاً لدى علماء الطبيعيات الذين يرصدون بداية حياة الإنسان من خلال النظر في تطور الحياة الحيوانية في الاحقاب التاريخية السابقة على قيام الحضارة وبدء التاريخ الإنساني، والذين يبحثون في الصفات البيولوجية المشتركة لجميع الكائنات الحية، ويرون في تشابه البنى العضوية دليلا على انتمائها جميعا إلى أصل مشترك، وخضوعها جميعا لتطور مشترك. ويؤكد هؤلاء أن حياة الإنسان تطورت من حياة حيوانية بسيطة من خلال عملية “الانتقاء الطبيعي”.
بالمقابل نجد أن أتباع الديانات التوحيدية يشتركون في سردية تحيل بداية حياة الإنسان إلى تخلّق آدم، أول كائن بشري ذكوري، وتخلّق زوجه حواء، أول كائن بشري أنثوي، بإرادة إلهية حاكمة. فنحن نجد أن القرآن يصف الخلق البشري من خلال آيات قرآنية تنقل لنا حواراً جرى بين الله والملائكة:
وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. (ص٧١-٧٢)
تتكرر هذه الرواية في آيات قرآنية أخرى ولكنها تقدم تفاصيل إضافية تجعل فكرة الخلق أمراً أكثر تعقيداً من افتراض أن خلق الإنسان الأول جرى بمعزل عن مفاهيم السيرورة الزمنية والتطور الطبيعي. فنجد مثلا أن سورة الحجر تصف طبيعة التحول الذي حصل للطين الذي تشكل منه الجسد البشري فتنعته بكلمة “الصلصال” التي تنقل لنا شيئاً عن البنية المتماسكة للجسد البشري الذي أصبح أكثر صلابة، كما تصف الطبيعة الجديد للطين بعبارة “الحمأ المسنون”، مما يدعونا إلى التفكير في عملية تحول من بنية معدنية (أي الطين الذي هو مزيج من التراب والماء) إلى بنية عضوية، كما يشير النص الآتي من سورة الحجر الذي يحمل معنى حدوث تحولات في الخليط الترابي المائي أحاله إلى مادة طينية داكنة ذات رائحة كريهة:
وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من حمأ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (الحجر ٢٨-٢٩)
يتكون الإنسان، وفقًا للنص القرآني، من مادة أرضية ممزوجة بالماء، تركت لفترة من الوقت حتى مرت بعملية تحول من مزيج معدني إلى بناء عضوي. تحوّل الطين إلى مادة نتنة داكنة تصدر رائحة إشارة واضحة إلى عملية تحول عضوي استمر زمناً ما، لم يصرح النص القرآني بمقداره قبل أن يأخذ شكله البشري. القرآن صامت هنا بالنسبة لطبيعة العملية التي من خلالها اتخذ جسم الإنسان شكله النهائي، لأن القرآن كتاب هداية وإرشاد لا كتاب علوم تجريبية، رغم احتوائه لتوصيفات تحمل إشارات إلى حقائق كونية وتكوينية دون الدخول بالتفاصيل الضرورية لفهم الكيفيات التي تخضع لها الظواهر الطبيعية.
الرواية القرآنية لبدء الخلق تترك عدداً من الأسئلة مفتوحة بحاجة إلى إجابة: هل تم تخلّق جسم الإنسان آنياّ؟ أم هل مر التخلّق بعملية تطور وارتقاء؟ ما هو واضح من الخطاب القرآني هو أن الوحي يضع مسألة أصل الحياة في عالم الملاحظة الطبيعية بدلاً من التفكير الكلامي أو الفلسفي، ويحيل الإنسان إلى النظر العقلي المعرفي للتحقق من الكيفية التي جرت فيها عمليات الخلق.
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدء الخلق. ثم الله ينشئ النشأة الآخرة، إن الله على كل شيء قدير. (العنكبوت ٢٩)
ومع ذلك، يصف القرآن الخلق البشري بعدة طرق مختلفة تشير بعضها إلى سيرورة مرحلية لعملية التخلق، بحيث يمر الإنسان عبرها بمراحل مختلفة قبل أن يتطور إلى شكل بشري. لذلك نجد أن الآيات المذكورة أعلاه من سورة الحشر تشير إلى عملية تغير خَلقي أحال البناء العضوي للإنسان إلى “خلق آخر” بلغ به ذروة الكمال وجعله بشراً يحمل مقومات الوجود الإنساني. يشير القرآن في “سورة الأعراف” إلى مرحلتين من التخلق البشري: مرحلة الخلق ومرحلة التصوير.
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين. (الأعراف ١١)
من الواضح أن القرآن يصف الحياة البشرية على أنها تتطور يستمر عبر مراحل متميزة، بأشكال مختلفة، بدءًا من البنية الأكثر بساطة على سطح الأرض، أي المادة الترابية، ليعود فيربطها مباشرة بمراحل تشكل الحياة الإنسية في رحم الأم، عبر مراحل التطور المختلفة منذ الطفولة، إلى سن البلوغ الكامل، إلى الشيخوخة بالنسبة لأولئك الذين يصلون إلى سن متقدمة للغاية، تنتهي مع الموت.
يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، لنبيّن لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى. ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم. ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً. وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. (الحج ٥)
يرى القارئ في هذا الرواية إشارة واضحة لعملية لا تقوم على عناصر حصرية مستقلة من روايتي الخلق والارتقاء، بل عملية تجمع بين عناصر من الروايتين هي عناصر الخلق والتطور أو الارتقاء التدريجي، حيث تبدأ الحياة من التراب، ثم تتطور إلى خلية واحدة (النطفة) التي تتكاثر لتشكل جلطة دموية هي (العلقة) التي تنمو لتصبح مادة عضوية متخلقة جزئيا (مضغة) ولتتحول بعد ذلك إلى عظام يكسوها اللحم… المثير للانتباه أيضا أن القرآن يصف مراحل تطور الجنين في رحم الأم، ولكنه يبدأ في توصيف علمية التطور والنمو هذه بالإشارة إلى التراب، وهي المرحلة السابقة على بدء الحياة الإنسانية.
هذه النقلة تشير إشارة خفية دون تصريح إلى تشابه تطور الحياة الإنسانية الأولى قبل اكتمال خلق الإنسان، وتدفع القارئ إلى التأمل في عملية التطور الجنينية بوصفها مثالا يحاكي عملة التطور الطبيعية للإنسان الأول خارج الرحم. وبذلك تتحول عملية التطور والارتقاء الجنيني التي تتكرر آلاف المرات كل يوم إلى سيرورة مشابهة لسيرورة تشكل الإنسان الأول، وتسمح لذلك بتوظيف هذه المقارنة لفهم سيرورة الخلق.
النص القرآني لا يكتفي بهذا التشابه المحدود بل نرى النص القرآني يستدعي في العبارة الأخيرة من الآية عملية التطور هذه لشرح عملية خلق أخرى تجري في الفضاء الطبيعي وتتعلق بتجديد الحياة في الغطاء النباتي المتولد في الصحراء خلال موسم الأمطار السنوي. إن عودة الحياة إلى صحراء تبدو وكأنها تفتقد الحياة خلال أشهر الصيف الحارة مع بدء موسم هطول الأمطار مع مطلع الخريف تقوم على عملية تطور تدريجي لنمو الغطاء العشبي.
يصف القرآن خلق الإنسان بأنه فعل إلهي هادف، ولكنه لا يستبعد حدوث عملية تطور عضوي تؤدي في نهايتها إلى اكتمال الإنسان ونضجه المادي، قبل أن يتحول إلى خلق آخر متميز عن الوجود العضوي الحيواني عبر خضوع الجسد لمتطلبات الحياة الروحية التي حولت الإنسان إلى كائن آخر يختلف جوهريا عن النوع الحيواني الذي يتشابه معه عضوياً. فما يميز البشر عن الحيوانات، وفقًا للتصور القرآني، ليس التطور البيولوجي للجسم البشري الذي يعطيه بعدًا جماليًا واضحًا، بل القدرة الأخلاقية والفكرية والروحية للروح الإنسانية. تتمتع حياة الإنسان بكرامة فريدة في الكائنات العضوية، وهي كرامة متأصلة في الروح الإنسية، لا العضوية الجسدية.
أردنا في السطور السابقة إظهار أن افتراض التعارض بين رواية الخلق والتطور في نشأت الحياة الإنسانية على الأرض يقوم على ظنون وتكهنات بعيدة عن التفاصيل المادية لعملية التخلق، وأن الرواية القرآنية بشكل خاص تسمح بالحديث عن عملية التطور والارتقاء لتشكِّل الحياة الإنسانية بشكليها التكويني الأصلي أو رواية الخلق الرسالية، وبشلكها التكويني الرحمي التي تتعلق بالتطور الجسدي للإنسان في رحم الأم قبل تحوّل الجنين إلى إنسان كامل قادر على ممارسة وظائفه الحيوية والروحية المتجلية بالإرادة الحرة والعقل المستنير والمشاعر الإنسانية العليا التي تميزه عن باقي الكائنات التي تُعايشة وتتعايش معه على الأرض. وأردنا كذلك أن نحذر من الانتقال من ظاهر النص القرآني إلى المعاني المقصودة، خاصة في المسائل التي تتعلق بالجوانب التي تتطلب بحثا عليمًا ونظرًا معرفيًا.
الصورة التي انتهينا إليها هي صورة يتكامل فيها النظر العقلي والنص العلوي في كيفية حدوث التخلق وبدئه. السعي لتوليف النصوص القرآنية العديدة في مسألة خلق الأنسان والملاحظات العلمية في كيفية بدء خلق البشر أعطتنا صورة أولية عن إمكانية تطور عضوي مديد للحياة الإنسانية تأخذ شهوراً خمسة في رحم الأم، وأخذت على الأغلب زمنًا أطول على سطح الأرض. وكما أنّ الجنين يتحول إلى خلق آخر بحلول الروح في الجسد، فيمكننا الحديث عن البنية البشرية التي تحولت بعد اكتمالها العضوي إلى خلق آخر هو الإنسان الذي تطورت رحلته الأرضية بفضل خصائص الروح التي يملكها خلال العشرة آلاف سنة الماضية من نزيل الكهوف إلى عامر للمدن الحديثة وصانع للحضارة الإنسانية الوارفة.