عبد الله درويش |
تعدُّ إشكالية الهوية، أو بشكل أدق إشكالية البحث عن الهوية، من أهم الإشكاليات التي تعترض الأمم، ولعلها تبدو أكثر حدة في بلدان العالم الثالث المهمومة بقضايا الحداثة والصراع بين القديم والجديد والأصيل والوافد، والمهددة بخطر العولمة.
تسعى الشعوب والأمم جاهدة للإجابة عن تساؤل مركزي: من نحن؟ لمن ننتمي؟ من هو الآخر؟ وهذه المساعي تعكس أزمة هوية كونية، وإذا كانت إشكالية الهوية بمثل هذه الأهمية على مستوى الشعوب والأمم، فإن الأمر ذاته ينطبق على الأفراد، فالإنسان يقضي حياته باحثًا عن هويته، فتحقيق الهوية رسالة، وهي مشروع الوجود الإنساني.
وإذا كانت الهوية تمثل قضية مهمة في كل مراحل نمو الإنسان، فإن أهميتها تزداد بدرجة كبيرة في مرحلة الشباب كمرحلة حرجة يمثل فيها تحقيق الهوية تحديًا ومطلبًا أساسيًا للنمو.
فالإنسان الذي يكتشف هويته هو الإنسان الذي يجد بحق الإجابة الحاسمة عن أهم مشكلات الوجود الميتافيزيقية: لماذا أعيش؟ ومن أنا؟ وما مهمتي؟ ويقول (لافل) في ذلك: “إن عظمة أي موجود هي بالضرورة رهن بوصوله إلى اكتشاف هويته.”
على أنه من الخطأ أن نتوهم أن الهوية تتحقق مرة واحدة وإلى الأبد، بل ينبغي ألا يتحجر الإنسان في صورة ثابتة مطلقة، فالصيرورة والفاعلية والحركة مفاهيم رئيسة عند مناقشة قضية الهوية.
مع التركيز على أصالة الهوية، فكل شخص وإن كان من وجه كجميع الناس، ومن وجه آخر كبعضهم، لكنه يظل مع ذلك متفردًا مختلفًا عن جميع الناس، وإن اشترك مع البعض ومع الجميع في بعض الأوجه.
حالات الهوية:
- تحقيق الهوية:
في هذه المرحلة يقوم الشخص باستكشاف الممكنات المختلفة، ويبدي التزامات تجاه ما استقر عليه من خيارات مهنية وإيديولوجية وقيمية وتوجهات جنسية، وهؤلاء الأشخاص هم أكثر مرونة في التعامل مع الواقع الخارجي، ولا يتسمون بالتصلب والجمود، وهم أكثر قدرة على الإبداع والتحليل المنطقي والتخطيط للأهداف، ومن الناحية الاجتماعية يحرزون درجات مرتفعة على مقاييس الألفة والعلاقات الاجتماعية الإيجابية، والعلاقات البينشخصية التي تتصف بالفاعلية وتجعلهم أكثر كفاءة في التأثير على الآخرين، وأظهروا قدرة على الثبات الانفعالي، وأكثر تقبلًا لذواتهم، وأكثر استقلالية في اتخاذ قراراتهم.
- تعليق الهوية:
ويتصف الأشخاص هنا بالتأرجح والتناقض في تحديد الهوية، ويشعرون بالقلق، ويحاولون التملص من المدخلات الوالدية.
- انغلاق الهوية:
يبدي فيها الأشخاص التزامات غير ناتجة عن البحث والاستكشاف، إنما هي التزامات جاهزة يقدمها الآخرون ويقبلها الشخص دون مناقشة، فهم أقل انفتاحًا على الخبرات الجديدة، وعلاقاتهم تتسم بالقولبة والنمطية، وغير متمايزين سيكولوجيا عن الآباء، ويرفضون التبرير لما يريدون أن يكونوا في المستقبل، وتتحدد هوياتهم في إطار القطيع، تنعم بالهدوء لكنها تفتقد إلى الذات الأصلية.
- تشتت الهوية:
تنشأ هذه المرحلة نتيجة السياق الاجتماعي، ويتسمون بالسطحية، وهم عمومًا غير سعداء ويعانون من الوحدة بشكل كبير، وليس لهم القدرة على التفاعل، وهم في الغالب يفتقدون إلى مركز، لذلك يسجلون مستويات متدنية من الثبات الانفعالي واعتبار الذات والاستقلالية، ويمتثلون لضغوط الجماعة، ودوافعهم لا ترتبط بشخصيتهم بقدر ما ترتبط بضغوط الجماعة، ويعانون من القلق وأقل درجة في التوافق الاجتماعي، فيميلون للتباعد والانسحاب الاجتماعي، وتتسم علاقاتهم بالنمطية.
العولمة وأزمة الهوية:
ينظر إلى العولمة كونها: زيادة الارتباط المتبادل بين المجتمعات الإنسانية من خلال عمليات انتقال السلع ورؤوس الأموال وتقنيات الإنتاج والأشخاص والمعلومات.
فهي تهدف إلى توحيد العالم إيديولوجيا وفق نمط عالمية السوق، فتنحصر هوية الإنسان فيما يستهلك وفيما يملك، فتنتج هويات جديدة مقطوعة الصلة عن واقعها وتاريخها وثقافتها، وتتمركز حول (النحن الاستهلاكية).
فيختزل الكيان الإنساني في ظل العولمة إلى بعده المادي بما يخل بالتكامل الوجودي للإنسان، فقد تحقق الإشباع المادي لكنها تقتل الروح والأخلاق والإنسانية لسلوك الإنسان.
التعصب:
التعصب في اللغة العربية من عصب الشيء عصبًا أي طواه ولواه وشده، وعصب الرجل بيته أي أقام فيه، وتعصب القوم أي تجمعوا وصاروا عصبة، والعلاقة اللغوية بين عصب وتعصب هي البُعد الدلالي الذي يغدو فيه التعصب ثباتًا متحجرًا على أصل من رأي أو فهم أو تأويل أو اعتقاد، ثم تصديقًا مطلقًا لكل ما ينقل من عصب الجماعة حيث مصدر السلطة، أي لا تخلو الدلالة اللغوية من الفهم الجامد للنصوص والأفكار والمعتقدات.
وفي أصله الأوربي يشتق مفهوم التعصب من الكلمة اللاتينية (Praejudicicuium)، وتعني الحكم المسبق، دون اختبار، مع الحالة الانفعالية من التفضيل أو عدم التفضيل الذي لا يدعمه سند، ويترتب عليه نزوع للسلوك بشكل تمييزي سواء ضد أم في صالح موضوع التعصب.
وهناك أربع عمليات سببية تدفع للتعصب عند (دكت)، هي:
- الأسس النفسية للاتجاهات التعصبية:
هناك من يرى أن التعصب غريزة ضد الذين يختلفون عنا، ولكن ذلك معترض عليه بأن هناك الكثير من الناس مختلفون يعيشون في مكان واحد وليسوا متعصبين.
ولا يعني تفضيل جماعة حتمًا التعصب ضد الجماعة المغايرة إلا في ظروف اجتماعية معينة قد تتعرض له الجماعة.
وهناك (نظريات) أو عمليات أساسية تشكل الأساس للاستعداد للتعصب، وهي:
أ-(الإسقاط): حيث يُعدُّ مظهرًا للحياة الاجتماعية الإنسانية، من خلالها تحاول الأنا حلَّ الصراعات الداخلية، فالإسقاط قد يكمن خلف الاتجاهات السلبية نحو الآخر الذي نسقط عليه صفاتنا غير المرغوبة ودوافعنا السلبية.
أي إن الإسقاط كعملية سكيولوجية أساسية يشكل إمكانية أو استعدادًا داخليًا يهيئ للتعصب.
ب-(الإحباط) العدوان (كبش الفداء): إن الإحباط غالبًا ما يثير العدوان، وعندما يكون سبب الاحباط مهددًا أو غامضًا فإننا على الأرجح نعيد توجيه عدواننا نحو موضوع بديل يكون بمنزلة كبش الفداء نصبّ عليه عدواننا في شكل تعصب، فالنظرية هذه تتعامل مع التعصب بوصفه عدوانًا مزاحًا.
ج- (التصنيف المعرفي): أي الطرق التي نفكر بها وننظم بواسطتها معلوماتنا عن الآخرين ونستخدمها في صياغة أحكامنا الاجتماعية، فتقدم قوالب جاهزة.
ومن آثار القولبة أن تنغلق الجماعة على نفسها وتبالغ في الفروق بينها وبين الجماعات الأخرى، وبدلًا من البحث عن أوجه التشابه، لا تبحث سوى عن مظاهر الاختلاف.
د- (الهوية الاجتماعية): فتقدير الذات يعتمد على رؤية الجماعة من زاوية إيجابية، فالتحيز للجماعة الداخلية دافعه الحاجة إلى الدعم وتقدير الذات، والتعصب بالمقابل سيكون أكثر حدوثًا، فتقدير الذات المنخفض يؤدي إلى التحيز للجماعة الداخلية، وتقدير الجماعة المنخفض يؤدي التعبير عن الاتجاهات السلبية ضد الجماعة الخارجية.
- الديناميات الاجتماعية للاتجاهات التعصبية:
العمليات السيكولوجية لا تعمل بطريقة آلية، إنما في ظل عوامل معينة في البيئة الاجتماعية، ومن هذه الديناميات:
أ- (الصراع الواقعي بين الجماعات): أي الصراع القائم بين الجماعات على الموارد من شأنه أن يستثير اتجاهات تعصبية متبادلة.
ب- (الحرمان النسبي): ويعني التعارض بين توقعات الأفراد عن الأشياء وشروط الحياة التي يعتقدون أنهم يستحقونها وبين قدرات بيئتهم الاجتماعية، الأمر الذي يدفعهم إلى العنف لتجاوز هذا الموقف المحبط.
وهناك الحرمان على مستوى الأنا، وينشأ من المقارنة بالآخرين، وحرمان على مستوى الجماعة، وينشأ من خلال المقارنة بين الجماعات الذي يؤدي للخصومة.
ج- (القوة المكانة غير المتكافئة بين المجموعات): هذا التصور يعد مُكملًا لنظرية الصراع الواقعي، الذي ينتهي بسيطرة جماعة وبسط نفوذها، وغالبًا ما يصاحب ذلك احتقار الجماعة المنهزمة والنظر إليها نظرة دونية، وهذه النظرة تبرر عمليات الاستغلال والتسلط المختلفة، فتغرس الجماعة المسيطرة في نفوس أفرادها الشعور بالتفوق والإيمان أن ما يحصلون عليه من مزايا ومكاسب هو حق مكتسب لا ينبغي لهم التنازل عنه، وبأن الآخرين عليهم أن يعملوا لخدمة مصالحهم.
د- (التمييز المؤسسي): تؤثر السياسة التمييزية التي تعتمدها المؤسسات الرسمية في التعامل مع الجماعات الاجتماعية المختلفة في الاتصال والتفاعل فيما بين هذه الجماعات، والمقصود بالسياسة التمييزية التفريق بين الأفراد والجماعات، حسب السلالة أو العرق أو العقيدة، في الحقوق والواجبات داخل المجتمع الواحد، بما ينطوي على عدم المساواة والبعد عن الانصاف والموضوعية في المعاملة.
- انتقال الاتجاهات التعصبية إلى الأفراد: وذلك من خلال:
- (التنشئة الاجتماعية وتعلم التعصب): من خلال الأسرة، الأقران، المدرسة، ومن الوسط المحيط، فالفرد لا يولد متعصبًا.
وأنواع التعليم التي تنتقل بواسطتها الاتجاهات التعصبية، هي: التعلم المباشر، التعلم الوسيلي، التعلم بالملاحظة، التعلم بالتوحد.
ب- (المسايرة وضغط الجماعة): فالمسايرة هي تغيير في السلوك أو الاتجاهات ينتج عن ضغط الجماعة الحقيقي أو الوهمي.
- الفروق الفردية والقابلية لاكتساب الاتجاهات التعصبية:
فالجماعة لا تؤثر في كل الأفراد بالقدر نفسه، وذلك متوقف على الخصائص الفردية التي تميز كل فرد عن الآخر، ومن الفروق الفردية النفسية والاجتماعية التي تؤثر في احتمالات أن يكون الفرد متعصبًا بالقياس إلى غيره من الأفراد، منها: الاحباط، التوافق النفسي، التوجه الديني، الشخصية التسلطية، العوامل المعرفية، التعليم، والمكانة الاجتماعية …