بقلم عبد العزيز مشهديعملت الولايات المتحدة الأمريكية على استراتيجية للحد من تصاعد حركة الإرهاب في الشرق الأوسط من خلال إنشاء تحالف دولي قوي للقيام بعمليات عسكرية مباشرة في العراق وسورية، وتسليح القوات المحلية على اختلاف أعراقها وأديانها وتدريبها وتجهيزها بالعتاد والذخيرة، والاتفاق مع حكومات المنطقة للحدِّ من تدفق المقاتلين والدعم، والعمل على محاربة المدِّ التطرفي الذي يغذي هذه الجماعات القتالية من خلال المؤسسات الدينية.كل هذه الإجراءات التي تبدو متكاملة لم يحقق لها النجاح ولم تحد من قوة تنظيم الدولة الإسلامية وانتشارها على مساحات واسعة من العراق وسورية ومصر وليبيا واليمن، إذ بقي التنظيم متمتعا بالمرونة والارتياح والتمدد على مساحات كبيرة، ممَّا ساعده على سرعة الاستجابة والتغييرات الاستراتيجية التي توجبها المعركة، وربَّما يكون السبب الرئيسي وراء فشل قوات التحالف هو عدم وضوح أمرين: الأول هو العقلية التي يعتمد عليها التنظيم في حربه وقتاله وعدم وضوح أهدافه القريبة والبعيدة وبرنامج أولوياته في أذهان محاربيه، والثاني يتمثل في السياسة الضبابية أو الغائمة أو المترددة التي تعتمدها أمريكا قائدة التحالف. هذا بالإضافة إلى تعدد الأطراف التي تقاتل التنظيم وعدم قدرتها على التنسيق فيما بينها بسبب اختلاف ميولها ومشاربها وأهدافها، وهي: (التحالف الدولي-العدوان الروسي-الجيش العراقي وميليشيات الحشد الشعبي في العراق-الجيش الحر وتنظيم القاعدة والجيش السوري والميلشيات اللبنانية والعراقية في سوريا-الجيش المصري في سيناء-قوات حفتر وفصائل أخرى في ليبيا)ولذلك كان خيرا لنا أن ندرس تحركات التنظيم ومراقبة ردود الفعل التي يلجأ إليها ومحاولة قراءة الاستراتيجية التي يعتمدها وتنبؤ الخطوات التي يمكن أن يقوم بها قبل الإقدام عليها، لأنَّه كان يعتمد بشكل كبير في معاركه السابقة على عنصر المفاجأة.إنَّ التهديدات القوية التي ما فتئ التنظيم يبثها في إصداراته المختلفة للدول المجاورة له والبعيدة عنه آلاف الكيلومترات يكشف عن قوة المبادرة التي يتمتع بها وهي التي تغيب عن القوات التي تريد قتاله على الأرض في أغلب الأحيان، وهذا ما سمح له باتخاذ التدابير الهجومية إضافة إلى قوة المنظومة الدفاعية التي شهد لها العدو أكثر من مرة، و(بيجي) العراقية أكبر مثال. لا شكَّ أنَّ هذا عزز قوة التنظيم وجعله يتصرف بنظام دولة لها جيشها وأركانها، ولها مؤسساتها وحياتها المدنية ممَّا حقق له النجاح والحاضنة الشعبية التي تبحث فقط عن الانتصارات والتمدد في أراض جديدة.وهنا دعونا نبحث عن سر نجاح الاستقطاب الذي عمل عليه التنظيم وجعلنا نقف أمامه متعجبين، ما الذي يدفع الشباب إلى تبني تلك الأفكار والانضمام إليه؟ إنَّ الإجابة عن هذا السؤال خطوة أولى في سبيل الحدِّ من عملية التدفق الكبيرة التي تجري كل يوم وإيقاف الخزان البشري الذي يعتمد عليه التنظيم اعتمادا كبيرا. إنَّ الاضطهاد الجماعي لأبناء السنة في العراق منذ إنهاء الاحتلال الأمريكي المباشر وبدء الاحتلال الإيراني، وتهميشهم واعتبارهم مواطنين درجة ثانية في دولة تحكمها القيادات الشيعية وتأتمر بأمر مرشد إيران جعل العراقيين السنة يجدون في تنظيم الدولة الإسلامية كما وجدوا في تنظيم القاعدة من قبل الملاذ الآمن والحضن الوحيد الذي ينقذهم ممَّا هم فيه بعد أن تنكَّر لهم العدو والصديق، وقد كانت الولايات المتحدة سببا في ذلك من حيث لا تشعر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نلاحظ الضعف الكبير الذي منيت به مؤسسات الثورة في سورية وعدم تمكنها من رسم مشروع سياسي واضح متفق عليه وعدم تمكنها من إدارة المناطق المحررة من نظام الأسد وقيام العدل فيها ورد الحقوق إلى أصحابها كما فعل التنظيم في مناطق سيطرته، ولا ننسى الاقتتال الحاصل بين الكتائب الذي زاد في الأمر سوءا.ينبغي لنا أن ندرس العوامل التي حققت للدولة الإسلامية ذلك النجاح العسكري الكبير الذي بدأت (القاعدة) تغتاظ من تقدمه وانتصاراته على أصدقائها وأعدائها وعليها، فإضافة إلى ما ذكر من أسباب الاستقطاب هو تبني منهج (العنف الشديد) مع الخصوم على اختلافهم، وهذا ما جذب الشباب الذين تعيش بلدانهم الديكتاتورية حالة من الركود والنوم في زمن التغييرات الكبرى، إضافة إلى الضغوطات التي تمارسها الحكومات على مواطنيها التي بقدرها أنتجت ردود الفعل القوية المفاجئة، وكما قيل (قوة الضغط تولد الانفجار). فلا نبالغ إطلاقا إن قلنا إنَّ سياسات تلك الدول وسجونها التي تغص بالعلماء والداعين إلى التحرر من الاستبداد والظلم، وتشبيحها وبلطجيتها واستسلامها وغياب المشروع الإسلامي الذي يجمع أبناءها أدى إلى انفضاض الشباب وتوجههم إلى ذلك الحلم الذي لم يروه إلا في الأفلام والمسلسلات ولم يسمعوه إلا في قصص التاريخ القديمة.لا نبالغ إن قررنا أنَّ عمالة هذه الدول للصليبي وتبعيتها لليهودي والتحكم بموارد الشعوب وبيعها بأبخس الأثمان مقابل الحفاظ على كراسيها، كل ذلك أوراق رابحة في أيدي تنظيم الدولة الإسلامية وهي أقوى من البنادق والرصاص.ربَّما يقول البعض: إنَّ المواجهة لا تكون إلا بالقوة وبتكثيف الضربات الجوية وتسريعها واستخدام منظومات أسلحة متطورة إضافة إلى تسليح نوعي للمقاتلين على الأرض، نقول لهم: إنَّ ذلك لم ينجح ولن ينجح، وذلك لأَّن لكل داء دواء، وليس هذا هو الدواء، لأنَّ الحرب فكرية بالدرجة الأولى، وهذا يعني المواجهة من قبل العلماء، وهنا تأتي مشكلة جديدة وهي أنَّ أغلب علمائنا وللأسف لا يُسمع لهم بسبب انحيازهم إلى الحكام الذين انكشفوا أمام الجميع. وهذا يتطلب عملا سريع وجادا من قبل العلماء الصادقين قبل أن يستفحل الأمر.وأخيرا: علينا أن ننظر إلى الواقع اليوم بعين الموضوعية، لأنَّ الكذب على أنفسنا وبقائنا في عالم الخيال والأمنيات لن يزيدنا إلا ضعفا وتراجعا ولن يزيد التنظيم إلا الاندفاع والقوة، وهذا يعني السير في المكان الخطأ وصعوبة اجتثاثه من الأرض والفكر.