عبد الله درويش |
كنت لا أحب الماعز ولا الخروج لرعيه، بل لم أكن أحب وقت العصر حين تنادي أمي عليَّ كي أذهب إلى الرعي، بينما برامج الأطفال تكون قد بدأت ولم تكن متاحة سوى ساعة في اليوم، فلم تكن كل هذه القنوات ولم يكن التلفاز متاحًا طوال الوقت وإنما من الساعة الثانية تقريبًا حتى منتصف الليل.
كان الماعز الذي نُربيه مشاغب بصورة غير طبيعية، وهو سمته بشكل عام، يركضون بسرعة ويحاولون الأكل من الأراضي التي على حافة الطريق الترابي الضيق، ومن ضمن الماعز الذي كنت أرعاه وقتها أحمال صغيرة تسير ببطء، فكنت أتشتت بين العدو والسير ببطء ما يزيد تذمري منها.
عدا عن ذلك فقد كان الجو العام للرعي غير منضبط أخلاقيًا، إذ إن غالب الأولاد كانوا يتكلمون بعبارات بذيئة ويتصرفون تصرفات لا أخلاقية، ولم يكن الرعي في زماننا كما كان في زمن العرب سابقًا حيث الهدوء والتفكر والمساحات الشاسعة، وقد ألقت هذه الظاهرة بظلالها على تربية الجيل عمومًا بشكل سلبي.
ومن بين الماعز كان لدينا عنزة سوداء، نصَّبت نفسها على رأس الماعز، تأكل قبلهم، وتشرب دونهم، وهم يقدمون لها فروض الطاعة، لا أعلم إن كان طوعًا أو كرهًا!
في ذات يوم كُسرت قدم العنزة السوداء! فخالطني شعور الفرح، إذ كانت تلك العنزة شديدة الشقاء، قلت في نفسي: سأرتاح من شغبها قليلاً لإصابتها بقدمها.
لكن حصلت مفاجئة لم تخطر ببالي قط في عالم الحيوان الذي نضرب به المثل في الوحشية وعدم التعقل، وهي أنه عندما حان وقت الرعي وقمت كعادتي مُتذمرًا، مشت العنزة السوداء بهدوء كون قدمها مكسورة، وهذا طبيعي، لكن المفاجئة أن باقي الماعز مشى بهدوء خلفها وعلى مشيتها، فلم يتجاوزوها! ولم يدوسوها! بل قدروها، واحترموا مكانتها بينهم، وساروا على سير أضعفهم، بل سيدتهم!
وقتها لم يخطر ببالي سوى أنني تخلصت من شغب الماعز وجريهم في الطريق بسرعة، وقلت في نفسي: لو يطول شفاؤها!
تلك الصورة بقيت في ذاكرتي من فعل الماعز، لا أعلم لماذا، لكن كلما رأيت موقفًا يتم فيه خرق الآداب والتقاليد في احترام الصغير للكبير، والعامي لذوي الفضل، كنت أتذكرها لأقارن بين الإنسان العاقل والعجماوات من الحيوان.
لماذا نسعى جاهدين للتقليل من شأن المبدعين؟ لماذا نشكك ممَّن يعملون لمجتمعهم؟ لماذا نحطم الثقة بمن يقودنا؟ لماذا نهمش ذوي الفضل ممَّن يقومون بأعمال جليلة في مجتمعهم وعندما يضعفون نقوم بتجاوزهم والشماتة بهم والتشفي من حالهم الذي وصلوا إليه؟
أليس من الإنسانية أن نشكر مَن يقدم الخير لمجتمعه أيًّا كان ذلك الخير وفاعله؟
أليس من الحضارة أن نكمل الدور الذي قام به من سبقنا فتتصافح أكف الأجيال وتتواصل الأفكار فتُبنى بناء متكاملاً وتتطور من خلال إبداعات اللاحق وتأصيل السابق؟!
إن من أبجديات التطور والبناء أن نؤمن باحترام تجارب السابقين والبناء على الصحيح منها وإبداع تجارب خلاقة وبذلك ننهض، أما لو كان دأبنا أن نهدم ونهدم فلن يكون هناك سوى أنقاض لأطلال أعمال لم تكتمل ولن ينفع البكاء عليها حينئذ، وسيكون قطيع الماعز وقتها هو العاقل.