جاد الغيث |
وجه أبيض بشعر أشقر كالذهب اخترقت طلقة رصاص رأسه من طرف عينه اليمنى فسال جزء من دماغه واختفت عينه! أما جسده فقد كان أزرق اللون من شدة سياط الجلاد، أغمضت عيني ورحت أقرأ المعوذتين، وإذ به يقفز إلى مخيلتي وجه رجل لم يتجاوز الثلاثين كان جسده بالكامل مطرزًا بالرصاص، ثقوب تكاد لا تحصى حولته إلى مصفاة بشرية رميت في النهر لتؤدي مع جثث أخرى معذبة ومشوهة رسالة خطيرة من نظام الأسد المجرم مفادها، “سنقتل الجميع، من كان مذنبًا ومن كان بريئًا، نحن لا نعرف الرحمة وأنتم من تطلبون الحرية، جميعكم حشرات قذرة”
تقلبت في فراشي كأنني على سرير من شوك وجمر، وأنا أرسم في رأسي صورًا لأمهات وزوجات القتلى!
مرت الليلة الثالثة ولم يغمض لي جفن، يبدو مستحيلاً نسيان تلك الوجوه المعذبة المغمورة بالماء التي وصلت عبر نهر (قويق) من جهة نظام الأسد إلى مناطق الثوار، حاولت وأنا في سريري منهك القوى أن استدعي شريط ذكرياتي في أيام الجامعة وكأنني أشاهد عرضًا سينمائيًا، مع كل مشهد من حياتي الجامعية المليئة بوجوه الأصدقاء والمعارف الكثر، لكن كانت وجوه القتلى تغلق منافذ الذاكرة وتتربع على عرش الألم في قلبي مسببة لي مزيدًا من الحزن والقهر ممزوجًا بإصرار غريب على تدوين ما رأته عيناي!
تركت السرير متجهًا إلى المطبخ، صنعت طبقًا من البيض المقلي، سهوت قليلاً فاحترق البيض في المقلاة، صار أسمر غامقًا لكنه لا يشبه تلك الجثة السوداء التي لم يُعرف من هو صاحبها، جثة كأنها أُخرجت من بيت النار ورُميت في النهر، ترى من يكون صاحب تلك الجثة، ربما هو صديقي الذي ذهب منذ أيام إلى مناطق النظام بهدف الحصول على جواز سفر؟!
تألمت بشدة لمجرد أن تخيلت صديقي هو صاحب الجثة المتفحمة، سالت دموعي دون أن أملك مقاومتها.
لم أضع في فمي ولا لقمة واحدة، كانت صور القتلى تأبى أن تغادرني وكان الحزن والجوع والحقد ينهشون بمخالبهم القوية جسدي المهدود.
وهذه صورة أخرى لوجه جديد تخرج من تحت الغطاء الذي سحبته لأعلى رأسي بعد أن عدت إلى سريري مرة أخرى، وجه ذلك الطفل البريء، لا أظنه قد تجاوز الرابعة عشرة من عمره، نحيفًا كأنه عود، مذبوحًا بوحشية، رقبته معلقة بجسده ببقايا جلد ممزق، عيناه سُملتا، وأظافر يديه وقدميه منزوعة بوحشية!
سألني قلبي الموجوع ترى ماهي الجريمة التي لا تغتفر والتي ارتكبها ذلك الطفل الذي يدعوه النظام بالإرهابي؟!
هناك جثة كانت شديدة البياض، جلدها متجعد كأنها منقوعة في الماء منذ شهور طويلة، كان وجه صاحبها مبتسمًا، ولا أثر للتعذيب عليه، كنت أريد معرفة الطريقة التي قتل بها، قلبته أكثر من مرة، وحين رفعت شعر رأسه خلف رقبته، رأيت أثرًا واضحًا لثقب كبير، كأنه قُتل بشيء حاد غُرز في رقبته من الخلف!
وحشية لا تستطيع الكلمات أن تحيط بها، ويوم أسود لا يمكن نسيانه أبدًا، يوم مجزرة النهر، حيث انتشلت من نهر قويق في حلب الشرقية (114) جثة لشباب في عمر الورد وصلت إلينا من حلب الغربية صباح يوم الإثنين 28 / 1 / 2013
هذا هو اليوم الأسود الذي حرمني النوم لثلاث ليال متتالية، وما تزال ذكرى ذلك اليوم تثير في قلبي وجعًا لا يطاق، وفي روحي عذاب لا ينتهي، وقاتل هؤلاء يُعاد تأهيله ..