الكلام عن علاقة الدول الداعمة للثورة يكاد يكون أكثر ملف شائك فيها، مما يدفع الكثيرين للإعراض عنه، لأن تحقيق حالة التوازن في معالجة هذه القضية من الصعوبة بمكان.
فإما أن تلبس النظارة السوداء وتتكلم عما يقولون إنه دور تركيا وقطر في أسلمة الثورة، وتسهيل دخول المقاتلين الأجانب، وتسليم المناطق والأسرى والجثث للنظام في اتفاقيات مشبوهة، والدعم المسيس الذي فرق الفصائل، أو تلبس النظارة البيضاء لتصف ما يسمونه الأيادي البيضاء لتركيا وقطر، وكيف احتضنتا الثورة يوم تخلى العالم كله عنها، وكيف قدمتا وما تزالان تقدمان كافة أشكال الدعم لها، رغم ما تعرضتا له من مشاكل وتضييق بسبب موقفهما منها.
أما الواقع فبين هذا وذاك، إذ قلَّ ما يكون الواقع السياسي أبيض أو أسود، بل هو غالبا تدرجات الرمادي.
فقطر وتركيا ليستا عدوتان تتآمران على الثورة لإسقاطها، وفي الوقت نفسه ليستا ملاكان طاهران بريئان يريدان نصر الثورة بأي ثمن، بل هما دولتان شقيقتان تقاطعت مصلحتهما الإستراتيجية مع مصلحة الثورة، لكنهما بالطبع لن يغلّبا مصلحة الثورة على مصلحتهما خاصة في ظل بحر الفشل والفوضى والاحتراب الداخلي الذي نسبح به.
لو ناقشنا مثلا الدور التركي بشيء من الواقعية والمنطق، وذلك نظرا لحضوره الأبرز في الثورة، ولاشتراك الأمن القومي التركي، مع الأمن الثوري بمفاصل خطيرة، وأخذنا منطقة ريف حلب الشمالي ميدانا للدراسة لوجدنا التالي:
– فشل الثوار في وضع حدٍّ لنفوذ داعش المتنامي، أو التنبؤ بالخطر القادم من الـ pkk، والناتجان عن الشرذمة والفصائلية، وتولية الأمور لقيادات غير مؤهلة لا تملك الحد الأدنى من أي شيء سيما النظرة الإستراتيجية، أوصلنا لحاجتنا إلى شريك عسكري يدخل معنا على الأرض بشكل مباشر، وفرق بين أن يدخل الشريك ليجدك كتلة صلبة متماسكة تتحرك بتناسق فيعاملك كشريك حقيقي، وبين أن يدخل فيجدك مجموعة من العصابات المشتتة المتقاتلة فيعاملك كتابع أو مرتزق.
– حاولت تركيا أن تدخل كشريك لنا، وهذا تنازل منها تشكر عليه، لكن الانفلات والفوضى التي وضعنا أنفسنا بها جعلت تركيا تعاملنا بما اخترناه لأنفسنا، ألا وهو الوصي على مجموعات مسلحة متشرذمة، تتلقى قياداتها الأوامر بجهاز التحكم من المخابرات التركية، وأقصى طموح لهذه القيادات أن ترضى عنها تركيا وتضع أسماءها على المعبر، حتى لو كلف الأمر هذه القيادات أن تضحي بكل الثورة.
– ليست المصيبة في السياسات التركية في سورية، خاصة بريف حلب الشمالي، بل المصيبة الحقيقية هي بالمنتفعين من أصحاب التربية البعثية الذين شبوا على مبادئها وأولها تمسيح الجوخ، فهؤلاء بسبب نفاقهم، تراهم حريصين على مصلحة تركيا أكثر من تركيا نفسها، يعني السوري المتثورن والمنتفع يزاود على الأتراك في تحقيق مصلحة تركيا أكثر من الأتراك أنفسهم!
ومثال على ذلك فصائل يفترض أنها ثورية سورية، كانت ترفع العلم التركي على حواجزها ومقراتها، حتى خرجت عليها عدة شكاوى للجانب التركي، الذي قام مشكورا بإيقاف هذا التصرف المداهن.
أنا على يقين أن تركيا لم تطلب منها ذلك، بل ما فعله هذا الفصيل إحراج لتركيا وتشويه لدورها، لكن من قام بذلك هو قائد منافق يتزلف بعمله هذا المخابرات التركية ويتقرب لهم.
مثال آخر رئيس مجلس محلي يمانع ويقاوم كل مشروع إغاثي أو ثقافي أو اجتماعي في مدينته أو بلدته خوفا من أن يكون في هذا المشروع ما يخدش أي شيىء يتعلق بتركيا وسياستها، وما علم أن نفاقه وانبطاحه لتركيا هو أكثر ما يسيء لها ولدورها قبل أن يسيء له هو شخصيا.
طبعا هذه الأنماط المرضية ظهرت بسبب ضعف الانتماء للثورة، أغلبهم لا يملك تاريخ ثوري، وغياب الهوية الذاتية، فهذه العينات ترى نفسها بمكانة أقل بكثير من الأتراك، وبالتالي تنشأ لديها ما يسميه المفكر مالك بن نبي القابلية للاستعمار، فهو جاهز لأن يكون عبدا لأي شخص يملك مقوما من مقومات استعباده، عبّر عن ذلك صاحب العقل العظيم ابن خلدون في مقدمته الشهيرة بقوله: (والمغلوب مولع دائما بتقليد الغالب).
الجوانب التي ذكرناها مؤشرات خطورة تنذر بكوارث مستقبلية، فلنفرض مثلا، ونتيجة للضغوط العالمية على تركيا، أو نتيجة انقلاب عسكري يطيح بحكومة العدالة والتنمية، وصلت القيادة التركية لتسوية سياسية مع النظام السوري، ماذا سيكون مصير الثورة التي أصبحت زمامها بيد قيادات تسبح بحمد تركيا بكرة وعشيا، فقط لتضع اسمها على المعبر، أو تقبض منها حفنة من المال؟!
لا شك أننا سنرى س أو ع من القيادات الثورية سيخرج علينا بخطابات تخدير تدور بفلك الحفاظ على الوطن، ووحدة التراب السوري، والفسيفساء السورية، ويكفينا دمارا وقتلا، ولن نستطيع الصمود أكثر في وجه القوى الدولية، والصلح خير، وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، سلام الشجعان، لا غالب ولا مغلوب، الحل السياسي، مبادرة فلان، اتفاق علان، إلى آخر هذه الشعارات والأسماء التي ما إن تسمعها تتداول في قضايا ثورات الشعوب، حتى تكبر على حقوق الشعب وطموحاته أربعا.
اليوم الغوطة تتعرض لإبادة، فهل سنرى قادات الثورة في ريف حلب الشمالي قد فتحوا جبهة النظام في تادف للتخفيف عن الغوطة، خاصة بعد التذمر الشعبي المتزايد حول هذه النقطة، حيث عبر عنها نبض الشارع بمظاهرة عفوية غاضبة كان المهجرون من تادف رأس حربة فيها، وسارت هذه المظاهرة حتى اخترقت خطوط الجبهة الوادعة، ووصلت إلى نقاط النظام السوري الذي رد عليها بالرصاص!
أنا شخصيا لا أتوقع أن تُفتَح جبهة تادف، لأن القيادات في ريف حلب الشمالي لبسوا النظارة التركية وصاروا يرون الأحداث من خلالها، واليوم المعركة الأهم بالنسبة إليهم هي غصن الزيتون، طبعا لا ننكر بحال أن معركة غصن الزيتون مهمة جدا للثورة، وأننا بحاجة ماسة إليها، لكن عداوتنا مع الـ pkk ليست أصلية كعدواة تركيا، عداؤنا الأصلي للنظام السوري المجرم.
وبمناسبة الحديث عن غصن الزيتون أحبُّ أن أنوه لخطورة التجاوزات التي تقوم بها بعض المجموعات المسلحة المحسوبة زورا على الجيش الحر، ضد أهلنا المدنيين في عفرين، فتحت تهمة الانتماء للـ pkk تتم سرقة أموال المدنيين، واغتصاب بيوتهم وأملاكهم، دون وازع من دين أو ضمير، وبغياب تام للملاحقة والمحاسبة، وترك الحبل لهذه المجموعات على غاربه يهدد العلاقة الأخوية بين الأشقاء، ويعود بما لا تحمد عقباه على مصلحة الثورة السورية وتركيا على السواء.
لسنا ضد تركيا، ولا ننكر جميلها على الشعب السوري، لكننا ضد المنتفعين من المحسوبين على الثورة الذين يزاودون على الأتراك أنفسهم بما يخص مصلحة تركيا، ولعل قائل يقول: لِمَ لم نتكلم عن الأدوار المشبوهة لباقي الدول في الملف السوري التي هي واضحة وضوح شمس الظهيرة؟ فنقول له: لأن هذه الدول هي أساسا حليف للنظام السوري ضد الثورة، ولا تربطنا بها شراكة إستراتيجية كالشقيقة تركيا.
الثوة السورية ولَّدت آلاف الأبطال، لكنها إلى اليوم لمَّا تلد بعد قائدا حقيقا يجمع أولئك الأبطال، قائدا يمتلك شجاعة الإقدام، مع ثبات الصمود، قائدا صاحب قرار حاسم يهتبل الفرص التي تمر بسرعة البرق، وينتزع قرار الثورة من الحلفاء والخصوم على السواء، ويضرب بيد من حديد كل من يهدد مصلحة الثوة من خارجها أو داخلها، ويرسم للثورة برؤيته إستراتيجية وطريق آمن لنصرها.