عبد الله درويش |
(جلاد حرامي) لعبة كانت شائعة في عمر الطفولة، حيث لم يكن هناك وسائل التواصل المتوفرة كما اليوم، وحتى التلفاز لم يكن يقدم سوى برامج موجهة ومملة، رغم أنه لم يكن متوفرًا لدى كل الناس.
تقوم هذه اللعبة على أن يكون هناك أربعة أشخاص، يجلسون بحيث يواجه كل اثنين بعضهما، ويتم توزيع أربع أوراق عشوائيًا مكتوب على الأولى (جلاد) وعلى الثانية (حرامي) وعلى الثالثة (شرطي) وعلى الرابعة (قاضي)، يقوم الشرطي بتخمين من يحمل ورقة الحرامي، وفي حال عرفه يصدر القاضي أمرًا بجلد الحرامي، وفي حال لم يعرف الشرطي من هو الحرامي، يقرر القاضي جلد الشرطي نفسه، وهنا وفي كلا الحالين يقوم الشخص الذي يحمل ورقة الجلاد بضرب الشخص المعاقب بعنف شديد.
يجسد دور الشرطي في اللعبة الذي ينفذ الأوامر بدون أي مراجعة أو مهنية، فهو مجرد موظف، ويجسد دور القاضي الذي لا يأبه بالأحكام التي يصدرها، والتي غالباً ما يشوبها الرشوة والمحسوبية والمصالح، ويجسد دور الجلاد القاسي المتجرد من كل معاني الإنسانية ويقطر غيظًا على من يقع تحت يده دون أي مسوّغ لهذه القسوة، ويجسد دور العامة الذين يُصورون بأنهم حرامية (لصوص) ولا ينفع معهم سوى التعامل العنيف.
منذ نعومة الأطفال، ومع تفتح عيونهم البريئة على الحياة كبراعم الأزهار، يواجهون القسوة والشدة في الحياة بدل الاحتضان والحب، ومن تلك اللحظات تبدأ الأفكار السلبية تكرّس في أذهانهم، لتصبح الموجِّه لسلوكهم العنيف، وترسخ القناعات السلبية حول المجتمع الذي يعيش بين أكنافه، فالقوة هي الحاكمة، والناس لا يجدر الثقة بهم، فهم مجرد لصوص، ومن عليه توفير الأمن تجده مصدر الهلع، والقاضي الذي من المفترض أن يكون مصدر طمأنينة للمظلومين، يكون مُضيعًا للحقوق ومُثيرًا للفوضى الاجتماعية.
من هنا نتكلم عن البنى الفكرية التي ترسخت لدى الجيل، ونحن في هذه الظروف نعاني من رسوخها في العقول، وتظهر جليًا في السلوك، فالبنى الفكرية هي الأفكار والمعارف والتجارب التي تشكل طريقة التفكير لدى الإنسان، وتصبح الموجه للسلوك، أي تصبح العقل الباطن، وهي غالباً ما تظهر عند وجود المثير الذي يستحضر ذلك التصور السلبي عن الموضوع المُثار، أو تجاه الشخص الذي يحاوره، أو من خلال الاحتكاك اليومي مع الناس ممَّن حوله.
هذه البنى تختلف في مدى رسوخها في العقل، ومدى انتشارها في المجتمع أو المجتمعات، ولها الأثر البالغ على الفرد والمجتمع في سلوكياته، ومدى فاعليته أو عطالته.
لقد ترسخ في أذهان المجتمع أن هذه الأمة لا جدوى فيها، وأنها باتت نهرًا جافًا لا يروي عطشًا، ولا ينبت نباتًا، ومن هنا بات الأفراد فاقدون لثقتهم بأنفسهم، متمترسون بنصوص لا تمت للصحة بشيء، أو يلوون النصوص، ويتذرّعون بأمثال شعبية انتشرت بين الناس تحض على القعود وعدم النهوض، والميل للعزلة، وانتظار الفرج والتمكين من الخوارق والمعجزات، أو الفهم السلبي لمفهوم القضاء والقدر.
إن العمل على تغيير تلك القناعات، وغرس قناعات إيجابية بديلة، من خلال نشر الوعي، والفكر المنضبط بالحقيقة، لهو دور التربويين اليوم، وهذا يتم العمل عليه عبر توعية المجتمع ككل، ولكن التركيز الأساسي يكون على الأطفال الذين مازال بالإمكان انتزاع ما علق في أذهانهم من أفكار تلقوها ممَّن حولهم.